الثالث: معناهُ: «إن تُعذِّبْهُم» بإقامَتِهِم على كُفْرِهِمْ، و {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} بعد الإيمان، وهذا مستقيم على قَوْلِ السديِّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] : إنَّ هذا السُّؤالَ عند رفعِهِ إلى السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ؛ لأن الإيمان لا يَنْفَعُ في القِيَامةِ.
الرابع: قيل هذا في فِرْقَتَيْنِ منهم، معناه: إن تُعذِّب مَنْ كفرَ مِنْهُم، وإن تغفر لِمَنْ آمَنَ منهم.
قال القُرْطُبِي -[رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى]- في الجوابِ عن هذا السُّؤال، بأنَّه قال ذَلِكَ على وَجْهِ الاسْتِعْطَافِ لَهُمْ والرَّأفَة، كعطف السَّيِّد لِعَبْدِه، ولهذا لم يَقُلْ: فإنْ عَصَوْكَ.
وقيل: قالهُ على وجْهِ التَّسليم لأمْرِه، والاسْتِجَارة من عَذَابه، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ.
وأمَّا قول من قال: إنَّ عيسى - عليه السَّلام - لا يَعْلَمُ أنَّ الكَافِرَ لا يُغْفَرُ له، فقولُ من يَتَجَرَّأ على كتابِ الله - تبارك وتعالى -؛ لأن الأخْبَارَ من الله - تبارك وتعالى - لا تُنْسَخُ.
وقيل: كان عند عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنَّهم أحْدَثُوا معَاصِي وعَمِلُوا بَعْدَهُ بما لم يأمُرْهُم به، إلَاّ أنَّهُم على عَمُودِ دينِهِ، فقال:{وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} ما أحْدَثُوا بَعْدِي من المَعَاصِي.
قوله:{فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} : تقدَّم نظيره [البقرة ٣٢] ، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفهم «العزيزُ الحكيم» ، وفي مصحف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقرأ بها جماعة:«الغفورُ الرحيم» ، وقد عبث بعض من لا يفهم كلام العرب بهذه الآية، وقال:«إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود» وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري، فإنه نَقَلَ هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال: ومتى نُقِل إلى ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه، فإنه ينفرد «الغفور الرحيم» بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما: أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه: إنْ تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفرْ لهم فأنت العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكأنَّ «العزيز الحكيم» أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلُحْ «الغفور الرحيم» أنْ يحتمل من العموم ما احتمله «العزيز الحكيم» .
قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وكلامُه فيه دقةٌ، وذلك أنه لا يريد بقوله «إنه معروف بالشرطين إلى آخره» أنه جوابٌ لهما صناعةً، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابه وهو «فإنهم عبادُك» وهو جوابٌ مطابقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرفه سيدُه كيف