وثالثها: أنَّهُ - تعالى - حَكَى عن نُوح أنه قال:{وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين}[الشعراء: ١١٤] ثم إنه تعالى - أمر مُحَمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمُتَابَعَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في جميع الأعمال الحَسَنَةِ بقوله:{فَبِهُدَاهُمُ اقتده}[الأنعام: ٩٠] فوجب على محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ألَاّ يَطْرُدهُمْ [فلما طردهم] كان ذلك ذَنْباً.
ورابعها: أنه قال: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا}[الكهف: ٢٨] وقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا}[طه: ١٣١] .
فنهاه عن الالْتِفَاتِ إلى زينةِ الحياة الدُّنيا، فكان ذَنْباً.
وخامسها: أن أولئك الفُقَراء كانوا كُلَّمَا دخلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هه الواقعة يقول:
«مَرْحَباً بِمَنْ عاتَبَني رَبّي فِيهِمْ» أو لَفْظاً هذا معناه، وذلك أيضاً يدلُّ على الذَّنْبِ.
فالجوابُ عن الأول: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما طَرَدَهُمْ لأجْلِ الاسْتَخْفافِ بهم والاسْتِنْكافِ من فَقرهِمْ، وإنَّما عَيَّنَ لجلوسهم وَقْتاً مُعَيَّناً سوى الوَقْتِ الذي كان يَحْضُرُ فيه أكَابِرُ قريش، وكان غرضه التَّلَطُّفَ بهم في إدْخَالِهِمْ في الإسلام، ولعله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يقول: هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يقوتهم [بسبب هذه] المُعَامَلةِ شيء من أمْرِهمْ في الدُّنيا وفي الدِّين، وهؤلاء الكفار فإنه يَفُوتُهُمُ الدِّينُ والإسلام، فكان ترجيح هذا الجانب أوْلَى، فأقْصَى ما يقال: إن هذا الاجتهاد وقع خطأ، إلَاّ أن الخَطَأ في الاجتهاد مَغْفُورٌ.
وأما قولهم: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - طَرَدَهُمْ، فيلزم كونه من الضالمين؟
فالجواب: أن الظلم عبارةٌ عن وضْعِ الشيء في غَيْرِ موضعه، والمعنى أن أولءك الفُقَراء كانوا يَسْتَحِقُّونَ التعظيم من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلمَّا طَرَدهُمْ عن ذلك المجلس، فكان ذلك ظُلْماً، إلاِّ أنَّهُ من باب تَرْك الأوْلَى أو الأفضل، لا من باب ترك الواجبات، وكذلك الجوابُ عن سائر الوجوه، فإنَّا نَحْمِلُ كلَّ هذه الوجوه على تَرْكِ الأفضل والأكمل والأوْلَىن واللَّهُ أعلم.
قوله:«بالغَدَاةِ» : قرأ الجمهور «بالغَدَاةِ» هنا وفي «الكهف» وابن عامر «بالغُدْوَةِ» بضم الغين وسكون الدال، وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد