قال الكسائي: «وهي كذلك في مصحف ابن مسعود» ، وتوجيه هذه القراءة أنَّا نُؤوِّل المذكربمؤنث كقولهم: «أتته كتابي فاحتقرها» ؛ أي: صحيفتي، وتقدَّم له نظائر.
وقرأ الحسن البصري: «الشَّيَاطُون» وجعلوها لَحْناً، ولا تَصِلُ إلى الَّحْنِ، إلا أنها لُغَيّةٌ رديئة، سُمِع: حول بسان فلان بساتون وله سلاطون، ويُحْكَى أنه لما حيكت قراءة الحسن لَحَّنَهُ بعضهم، فقال الفراء: «أي والله يُلحِّنُون الشيخ، ويستشهدون بقول رؤبة» . ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك.
والمراد ب «الَّذي» الجِنْسُ، ويحتمل أن يراج به الواحد الفَذُّ.
قوله: «في الأرْضِ» فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه مُتعلِّق بقوله: «اسْتَهْوتْهُ» .
الثاني: أنه حالٌ من مفعول «اسْتَهْوَتْهُ» .
الثالث: أنه حالٌ من «حيران» .
الرابع: أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في «حيران» ، و «حيران» حال إما من «هاء» «استهوته» على أنها بدلٌ من الأولى، وعند من يجيز تعدُّدَهَا، وإما من «الَّذِي» ، وإما من الضمير المستكن في الظرف، و «حيران» مؤنثة «حيرى» ، فلذلك لم يَنْصَرِفُ، والفعل حَارَ يَحَارُ حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورةً، و «الحيران» المُتَرَدِّدُ في الأمر لا يهتدي إلى مَخْرَجٍ.
وفي اشتقاق «اسْتَهْوَتْهُ» قولان:
الأول: أنه مشتق من الهُوِيِّ في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [السافلة] العميقة [في قعر الأرض] فشبه الله تعالى حال هذا الضَّالِّ به، كقوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء}
[الحج: ٣١] ولا شكل أن الإنسان حال هُويِّةِ من المكان المعالي إلى الوهْدةِ العميقة يكون في غايةِ الاضْطرابِ والدهشة والحيرةِ.
والثاني: أنه مُشْتَقٌ من اتِّباعِ الهَوَى والميل، فإنه من كان كذلك، فإنه ربما بلغ النهاية في الحَيْرَةِ.
واعلم أن هذا المثل في غاية الحُسْنِ؛ لأن الذي يَهْوِي من المكان العالي إلى الوَهْدَةِ العميقة، يحصل له كمال التَّرَدُّدِ والدهشة والحيرة؛ لأنه لا يعرف أي موضع يزداد بلَاؤهُ بسبب سقوطه عليه أو يَقِلُّ.