إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغَارِ باطل؛ لأن لو كان الأمْرُ كذلك، فكيف يقول: يا قوم إن بَريءٌ مما تشركون، مع أنه كان في الغارِ لا قَوْمَ ولا صَنَمَ.
فكيف يُحَاجُّونك وهم لم يَرَوْهُ ولم يرهم، وهذا يَدُلُّ على أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما اشغل بالنَّظَرِ في الكواكب والشمس والقمر بعد مُخَالطةِ قومه، ورآهم يَعْبُدُونَ الأصنام، ودعَوْهُ إلى عِبَادتَهَا، فقال:«لا أحِبُّ الآفلينَ» ردَّا عليهم، وتَنْبيهاً على فَسَادِ قولهم.
العاشر: أنه - تعالى - حُكِيَ عنه أنه قال للقوم:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله}[الأنعام: ٨١] وهذا يَدُلُّ على أن القوم خَوَّفُوهُ بالأصْنَام كما قال قوم هود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {إِن نَّقُولُ إِلَاّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء}[هود: ٥٤] وهذا الكلام لا يليقُ بالغَارِ.
الحادي عشر: أن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طَالِعَةً في اليوم المتقدم، ثم غَرَبَتْ، فكان ينبغي أن يستدلَّ بغروبها السَّابق على أنها لا تصلح للإلهية، وإذا بَطَلَ صَلاحيَّةُ الشمس للإلهية بطل ذلك في القمرِ والكوكب بطريق الأوْلَى.
هذا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المَعْرِفَةِ لنفسه، أما إذا قلنا: المقصود منها إلْزَامُ القَوْمِ وإلجَاؤُهُمْ، فهذا السؤال غير وَاردٍ، لأنه يمكن أن يقال: إنه إنما اتَّقَقَتْ مُكالَمَتُهُ مع القوم حالَ طُلُوع ذلك النجم، ثم امْتَدَّت المُنَاظَرَةُ إلى أنْ طَلَعَ القمر، وطلع الشمس بعده، وعلى هذا التقدير فالسُّؤالُ غير واردٍ، فثبت بهذه الدلائل الظَّاهرة أنه لا يجوز أن يقال: إن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال على سبيل الجَزْمِ «هذا ربي» ، وإذا بطل بقي ها هنا احْتِمَالانِ:
الأول: أن يقال: هذا كلام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يقل:«هذا ربي» على سبيل الإخبار، بل الغَرَضُ منه أنه كان يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الكواكب، وكان مذهبهم أن الكواكب رَبُّهُمْ، فذكروا إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذلك القَوْلَ الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم، حتى يرجع إليه فَيُبْطلَهُ كما يقول الواحد منا إذَا نَاظَرَ مَنْ يقول بِقدمِ الجِسْمِ، فيقول: الجسم قَدِيمٌ فإن كان كذلك فَلِمَ نراه؟ ولم نشاهده مركّباً متغيراً؟ فقوله: الجسم قديم إعادةٌ لكلام الخَصْم حتى يلزم المُحَال عليه، فكذا هاهنا قال:«هَذَا ربِّي» حكايةً لقول الخَصْمِ، ثم ذكر عَقَيِبَهُ ما يَدُلُّ على فساده، وهو قوله:{اأُحِبُّ الآفلين} ، ويؤيد هذا أنه - تعالى - مَدَحَهُ في آخر الآية على هذه المُنَاظَرَةِ بقوله:
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ}[الأنعام: ٨٣] .
وثانيها: أن قوله تعالى: «هَذَا رَبِّي» في زعمكم واعتقادكم، فلما غاب قال: لو كان إلهاً لما غاب كما قال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}[الدخان: ٤٩] ، أي: عند