قلنا: نسلم، ولم قلتم بأن العبادة في المَوَاضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرَّديئة؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعةٌ على البشر، ومع هذا يرضون بقضاء الله، ولا تغيرهم تلك المِحَنُ عن المُوَاظبة على عبوديته، وهذا أعظم في العبودية.
وأما قولهم: المُوَاظبة على نَوْعٍ واحدٍ من العبادة أشقّ.
قلنا: لما اعتادوا نوعاً واحداً صاروا كالمَجْبُورين الذين لا يقدرون على خِلَافِهِ؛ لأنَّ العادة طبيعة خامسة، ولذلك قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:«أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ كان يصوم يوماً ويُفْطر يوماً» .
ورابعها: قالوا: عبادات المَلَائكة أَدْوَم؛ لأن أَعمارهم أطول، فكانت أفضل لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:«أَفْضَلُ العُبَّاد من طل عمره، وحَسُنَ عمله» .
ولقائل أن يقول: إن نوحاً ولقمان والخَضِر - عليهم الصَّلاة والسلام - كانوا أطول عمراً من محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فوجب أن يكونوا أفضل منه، وذلك باطل بالاتفاق.
وخامسها: أنهم أسبق في كل العِبَادِاتِ فيكونون أفضل لقوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون}[الواقعة: ١٠، ١١] ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من سَنَّ سُنَّةٌ حَسَنَة فله أَجْرُهَا وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» .