ومعنى الآية الكريمة: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلَاّ فقل فأنت الله الذي أنزلت، أي أن العقل السليم والطَّبْعَ المُسْتَقِمَ يشهد بأن الكِتَابَ الموصُوفَ بالصفات المذكورة المؤيد قَوْلَ صابه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل ظاهراً لظهور الحُجَّةِ القَاطِعَةِن لا جَرَمَ قال تبارك وتعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: قل لهم المُنَزِّلُ لذلك الكتاب هو الله، ونظيره قوله تعلى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ}[الأنعام: ١٩] كما أن الرجل الذي يريد إقامَةَ الدلالة على الصَّانِعِ يقول: منِ الذي أْحْدَثَ الحياة بعد عَدَمِهَا، ومن الذي أحْدَثَ العَقْلَ بعد الجَهَالةِ ومن الذي أودع الحدَقَةَ القُوَّةَ البَاصِرَة، وفي الصِّمَاخِ القُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثم إن هذا القائل بِعَيْنِهِ يقول: الله، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حَيْثُ يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء اقر الخَصْمُ به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا.
قوله:{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} يجوز أن يكون «فِي خَوْضِهِمْ» متعلقاً ب «ذرهم» ، وأن يتعلق ب «يلعبون» ، وأن يكون حالاً من مفعول «ذَرْهُمْ» وأن يكون حالاً من فاعل «يلعبون»[فهذه أربعة أوجه] وأما «يلعبون» فيجوز أن يكون حالاً من مفعول «ذرهم» .
ومن منع أن تتعدَّد الحال لواحد لم يُجِزء حينئذ أن يكون «في خوضهم» حالاً من مفعول «ذرهم» ، بل يجعله إما متعلقاً ب «ذرهم» ، كما تقدَّم أو ب «يلعبون» ، أو حالاً من فاعله.
ويجوز أن يكون «يلعبون» حالاً من ضمير «خوضهم» وجاز ذلك أنه في قُوَّةِ الفاعل؛ لأن المصدر مُضاف لفاعله؛ لأن التقدير:«ذرهم يخوضون لَاعِبينَ» وأن يكون حالاً من الضمير في «خوضهم» إذا جعلناه حالاً؛ لأنه يتضَمَّنُ معنى الاسْتِقْرارِ، فتكون حالاً متدخلة.
فصل في معنى الآية
معنى الكلام إذا أقمت الحُجَّة عليهم، وبلغت في الإعذار والإنذار هذا المَبْلَغَ العظيم لم يَبْقَ عليك من أمرهم شيء ألْبَتَّةَ، ونظيره قوله تعالى:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البلاغ}[الشورى: ٤٨] .
قال بعضهم: هذه الآية مَنْسُوخَةٌ بآية السَّيْفِ، وهذا بعيدٌ؛ لأن قوله:«ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» مذكور لأجل التهديد، ولا ينافي ذلك حصول المُقاتَلَة، فلم يكن ورود الآية الكريمة الدَّالَّةِ على وجوب المُقاتَلَةِ رافعاً لمدلول هذه الآية، فلم يحصل النَّسْخُ.
قوله " هذا " إشارة إلى القرآن، أي: القرآن كتاب مبارك " أنزلناه مصدق الذي بين يديه ".