أي لمُلْحَقُونَ، وقال:{حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق}[يونس: ٩٠] أي: لحقه، ويقال: ادرك فلان فلاناً، وأدرك الغُلامُ الحلْمَ، أي: بلغ، وأدركت الثمرة، أي: نَضَجَتْ، فثبت أن الإدْراكَ هو الوُصُولُ إلى اشيء، وإذا عُرِفَ هذا فنقول المرئِيُّ إذا كان له حَدُّ ونهايةٌ، وأدْرَكَهُ البَصَرُ بجميع حُدُودِهِ وجَوانِبهِ ونهايته صَارَ ذلك الإبْصَارُ كأنه أحَاطَ به فَتُسَمَّى هذه الرُّويةُ إدْرَاكاً.
أما إذا لم يُحِطِ البَصَرُ بجوانب المرئيَّ لم تُسَمَّ تلك الرؤية [إدراكاً، فالحاصل أن الرؤية] جنس تحته نوعان: رؤية مع الإحاطة [ورؤية لا مع الإحاطة، والرؤية مع الإحاطة] هيا لتي تسمى إدراكاً، فنفي الإدراك يفيد نفي الجِنْسِن فلم يلزم من نَفْي الإدْرَاكِ على الله - تعالى - نَفْيُ الرؤية عن الله، وهذا وَجْهٌ حَسَنٌ في الاعْتِرَاضَ على كلامهم، فإن قالوا: إنْ قلتم: إنَّ الإدْراك يُغَايِرُ الرؤية، فقد أفْسَدْتُمْ على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تَمَسَّكْتُمْ بها في هذا الآية الكريمة على إثبات الرؤية.
قلنا: هذا يفيد أنه إدْراكٌ أخَصُّ الرؤية، وإثبات الأخصَّ يوجب إثبات الأعِمِّ، أما نَفْيُ الأخَصِّ فلا يوجب نَفْيَ الأعَمِّ، فثبت أن البَيَانَ الذي ذَكَرْنَاهُ يبطل كلامهم، ولا يبطل كلامنا.
وثانيها: أن نقول: هَبْ أن الإدْراكَ يفيد عموم النَّفي عن كل الأشخَاصِ في كُلِّ الأحوال، فلا نُسَلِّمُ أنه يفيد نَفْي العموم، إلَاّ أن نَفْيَ العموم غير، وعموم النفي غيرن وقد دَلَّلْنَا على أن هَذَا اللَّفْظِ لا يفيد إلا نفي العموم، وبَيَّنَّا أن نَفْيَ العموم يوجب ثبوت الخُصُوصِ.
وأما قولهم: إن عَائِشَةَ تَمَسَّكَتْ بهذه الآية في نَفْي الرؤية، فنقول: معرفة مفرادات اللغة إنما تُكْتَسَبُ من علماء اللغة، فأمَّا كيفية الاسْتِدْلالِ بالدليل، فلا يُرْجَعُ فيه إلى التَّقْلِيدِ، وبالجملة فالدليل العَقْلِيُّ دَلَّ على أن قوله تعالى:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يفيد نفي العموم وثبت بصريح العَقْلِ أن نَفْيَ لعموم مُغَايِرٌ لعموم النَّفيِ، ومقصودهم إنما يَتِمُّ لو دلَّتِ الآية على عُمُومِ النفي، فَسَقَطَ كلامُهُمْ.
وثالثها: أن نقول: صيغة الجَمْعِ كما تُحْملُ [على الاستغراق فقد تُحْمَلُ] على المعهود السَّابق أيضاً، وإذا كان كذلك، فقوله:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأبصار} وهي الأحْدَاقُ وما دامتْ تبقى على هذه الصفات التي هي مَوْصُوفَةٌ به في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدرك الله تعالى إذا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا، وتغيَّرتْ أحوالها، فَلِمَ قلتم، إن حصول هذه التغيرات لا تدرك الله تعالى.