فإن قيل ما الفائدة في السؤال الرُّسُلِ مع العلم بأنه لم يَصْدُر عنهم تقصير ألبتة؟
فالجوابُ: لأنهم إذا اثبتوا أنه لم يَصْدُرْ عنهم تَقْصِيرٌ ألْبَتَّةَ التحق التَّقْصِيرُ كله بالأمَّةِ، فيتضاعفُ إكرامُ اللَّه تعالى للرُّسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التَّقْصِير، ويتضاعف الخِزْيُ والإهانَةُ في حقِّ الكفَّارِ، ولما ثبت أنَّ ذلك التَّقْصِيرُ كان منهم.
والمعنى: أنه بين للقوم ما أسروه، وما أعلنوه من أعمالهم، وبين الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال. وقوله:" بعلم " في موضع [الحال] من الفاعل، و" الباء " للمصاحبة أي: لنقصن على الرسل والمرسل إليهم حال كوننا متلبسين بالعلم. ثم أكد هذا المعنى بقوله:{وما كنا غائبين} أي: ما غاب عن علمه شيء من أعمالهم، وذلك يدل على أن الإله لا يكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} وبين قوله: {فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان}[الرحمن: ٣٩] وقوله: {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون}[القصص: ٧٨] فالجواب من وجوه: أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال؛ لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم. وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ كقول القائل: " ألم أعطك " وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم}[يس: ٦٠] وقول الشاعر: {الوافر} ٢٤٠٤ - ألستم خير من ركب المطايا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فإذا عرف هذا فنقول: إن الله عز وجل لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى:{فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} ثم قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}[المؤمنون: ١٠١] . فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا لقوله:" وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون "، وقوله:{فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}[المؤمنون: ١٠١] ، معناه: أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف؛ لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.