للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية؛ لأنه لم يقل: تضلُّ بها من تشاء عن الدين؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها؛ فوجب تأويل الآية.

فمعنى قوله: {إِنْ هِيَ إِلَاّ فِتْنَتُكَ} أي: امتحانُك وشدة تعبدك؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها، وأمَّا قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} ففيه وجوه: أحدها: تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف، ويبقى على الإيمان، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه، وثانيها: أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك، أي: تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء، وثالثها: أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى، وضلال من ضَلَّ، جاز أن يُضافَ إليه.

فصل

واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه، وتقريره من وجوه:

الأول: أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر، إلَاّ لداعية مرجحة، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى، وعند حصول الداعية يجب الفعل، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى.

الثاني: أنَّ العاقل لا يُريدُ إلَاّ الإيمان، والحقَّ، والصدقَ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى.

الثالث: لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق، وأنَّ الآخر هو الباطل، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول، وأنَّ الآخر مشورطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه، وهو محالٌ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد، وأمَّا إبطال تأويلاتهم، فقد تقدَّم مراراً.

قله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان: أحدهما: أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي: حال كونها مُضلاًّ بها، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ، ومنعه أبُو البقاءِ قال: «لعدم العامل فيها» وقد قدم البحث معه مراراً.

قوله: «أنْتَ وَلينَا» يفيد الحَصْرَ، أي: لا ولي لنا، ولا ناصر، ولا هادي إلَاّ أنت، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ} .

وقوله: {فاغفر لَنَا وارحمنا} المُرادُ منه: أنَّ إقدامه على قوله: {إِنْ هِيَ إِلَاّ فِتْنَتُكَ}

<<  <  ج: ص:  >  >>