فأنزل الله تعالى:{إِن تَسْتَفْتِحُواْ} الآية، أي: إن تسْتَفتِحُوا فقد جاءكم القضاء.
وقال أبيّ بن كعب: هذا خطاب لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الله للمسلمين: {إِنْ تَسْتَفْتِحُواْ} أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر. روى قيس عن خباب قال:«شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا، فجلس مُحْمرّ الوجه، فقال لنا:» لقَد كانَ مَنْ قَبْلكُم يُؤخَذُ الرجُ فيُحْفَر لهُ في الأرضِ ثُمَّ يُجاءُ بالمنشَارِ فيجعلُ فوق رأسِهِ ثُمَّ يُجعَلُ نِصفيْنِ ما يَصْرفهُ عنْ دينهِ، ويُمَشَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ ما يصرفهُ عن دينهِ، والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكبُ مِنْكُم من صنعاء إلى حضْرموت لا يخافُ إلا اللَّه، ولكنَّكُم تَسْتَعْجِلُونَ «
قال القاضي: وهذا القول أوْلَى؛ لأن قوله {فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} لا يليق إلا بالمؤمنين اللهم إلَاّ أن يحمل الفتحُ على الحكم والقضاء، فيمكن أن يراد به الكفار.
قوله:{وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} .
فإن قلنا: إن ذلك الخطاب للكفار، كان المعنى وإن تنتهوا عن قتال الرَّسول وعداوته؛ فهو خير لكم في الدّين بالخلاص من العقاب، وفي الدّنيا بالخلاص من القتل والأسر والنَّهْبِ.
» وإن تَعُودُوا «إلى القتال:» نَعُدْ «أي: إلى تسليطه عليكم: {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر.
وإن قلنا ذلك خطاب للمؤمنين كان المعنى: إن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسْرَى، فقد كان وقع بينهم نزاع يوم بدر في هذه الأشياء حتى عاتبهم اللَّهُ بقوله:{لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ}[الأنفال: ٦٨] .
فقال تعالى:{وَإِن تَنتَهُواْ} عن مثله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ} أنتم إلى تلك المنازعات «نَعُدْ» إلى ترك نصرتكم؛ لأن الوعد بنصركم مشروط بشرط استمراركم على الطَّاعة، وترك المخالطة ثمَّ لا تنفعكم الفئة والكثرة، فإنَّ الله لا يكون إلَاّ مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب.
قوله:«ولَن تُغْنِيَ» قرأ الجمهورُ بالتَّاءِ من فوق، لتأنيث الفئة.