وقيل: إنَّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام، فنحن أفضل أم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه؟ فقالت اليهودُ لهم: أنتُمْ أفْضَلُ.
قال ابن الخطيب:«هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار، أمَّا كونها جرت بين المسلمين، فلقوله تعالى بعد ذلك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله، وذلك لا يليق إلَاّ بالمؤمنين، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار، فلقوله تعالى {كَمَنْ آمَنَ بالله} وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله» .
وهذا هو الأقرب؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله}[التوبة: ١٨] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام، وسقي الحاج، فأجاب الله عنه بوجهين:
الأول: ما تقدَّم في الآية الأولى: أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن، أمَّا إذا صدرت عن الكافر، فلا فائدة فيها ألبتة.
والثاني: هذه الآية، وهو أن يقال: سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام، وسقي الحاج، يوجب نوعاً من الفضيلة، إلَاّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً، وإنَّه باطل، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.
فصل
روى عكرمةُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء إلى السِّقاية فاستسقى، فقال العبَّاسُ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشراب من عندها، فقال: اسقني. فقال يا رسُول الله: إنَّهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنَّكم على عملٍ صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا، يعني: عاتقه وأشار إلى عاتقه.
وعن بكر بن عبد الله المزنيّ: قال: كنتُ جالساً مع ابنِ عبَّاسٍ عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمِنْ حاجةٍ بكم؟ أمِنْ بُخْلٍ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: الحمدُ للهِ ما بِنَا من حاجة ولا بخل، إنَّما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على راحلته، وخلفه أسامة، فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب، وسقى فضله