ولو قلت:» وأنا قائمٌ «حالاً من ضمير» ليفعلنَّ «لم يجز، وكذا عكسه، نحو: حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم، تريد: قائماً، لم يجز.
وأمَّا قوله:» وجاء به على لفظ الغائب؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم «فمغالطةٌ، ليس مخبراً عنهم بقوله:» لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا «، بل هو حاكٍ لفظ قولهم. ثمَّ قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً ... إلى آخره. كلامٌ صحيحٌ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةٌ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله، لاشتراكهما في العامل، لو قلت: قال زيدٌ: خرجت يضربُ خالداً، تريد: اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هندٌ: خرج زيد أضرب خالداً، تريد: خرج زيد ضارابً خالداً، لم يَجُزْ، انتهى.
معنى الآية: أنَّه لو كانت المنافع قريبة، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع، ولكن طال السفرُ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم، فلهذا تخلَّفُوا، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم:{سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام» اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ «ثم قال: {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج، فكانوا كاذبين في أيمانهم.
فصل
قالوا: الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.
قوله تعالى:{عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الآية.
لمَّا بيَّن تعالى بقوله:{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاّتَّبَعُوكَ} أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمَّا قال بعده:{عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} دلَّ هذا، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه.
قوله:{لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} «لِمَ» ، و «لَهُمْ» كلاهما متعلقٌ ب «أذِنْتَ» ، وجاز ذلك؛ لأنَّ معنى اللَاّمين مختلف؛ فالأولى للتعليل، والثانية للتبليغ. وحذفت ألفُ «ما» الاستفهامية