أظهرهما: أنَّهما منصوبان على المصدر، أي: ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً؛ فحذف الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه.
والثاني: أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي: زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً والأول أولى؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين: بلفظه ومعناه، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه، بل بهيئته الخاصَّةِ.
وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلَاّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، لقوله تعالى بعده {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
قوله: «جَزَاءً» فيه وجهان:
الأول: قال الزَّجَّاج: إنَّه مفعولٌ لأجله، أي: سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم. و «بِمَا» متعلق ب «جزاء» ، لتعديته به ويجوزث أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفته.
والثاني: أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: يُجْزونَ جزاءً. {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} في الدنيا من النِّفاق.
قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} الآية.
«رَجَعَ» يتعدَّى كهذه الآية الكريمة، ومصدرُهُ: «الرَّجْع» ، كقوله {والسمآء ذَاتِ الرجع} [الطارق: ١١] . ولا يتعدَّى، نحو: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: ٣٥] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل. والمصدر: الرُّجوعُ، كالدُّخُولِ.
والمعنى: فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة، ومعنى «الرجع» مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعاً، كقولك: رددته رداً.
وقوله: {إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} إنَّما خصَّصَ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين، {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} معك في غزوة أخرى {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} في سفر، {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام، ونظيره قوله تعالى
{سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم} [الفتح: ١٥] {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} [الفتح: ١٥] ، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ} أي: لأنكم رضيتم {بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} في غزوة تبوك.
قال أبُو البقاءِ: «أوَّل مرَّةٍ» ظرف. قال أبُو حيَّان «يعني ظرف زمان وهو بعيد» .