قرية آمنت عند معاينة العذاب، «فنفعها إيمانها» في حال اليَأسِ «إلَاّ قوم يونس» ، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، و «قوم» نصب على الاستثناء المنقطع، أي: ولكن قوم يونس «لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا، ومتعناهم إلى حين» ، وهي وقت انقضاء آجالهم، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم: رأوا دليل العذاب. والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله:{كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي} ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع، أو إذا قرب قوله:«ولو شاء ربُّك» يا مُحمَّدُ «لآمن من في الأرض كلهم جميعاً» .
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة، والجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم؛ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم، ويعلي شأنهم، ويقوي جانبهم، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله، ومشيئته وإرشاده، وهدايته، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ.
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره، فقوله:{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل، وأجاب الجبائيُّ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء، أي: لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه، ولكنَّهُ ما فعل ذلك؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه، ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائيُّ: ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر، ولم يقدر على الإيمان، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال: إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر؛ فوجب أن يقال: أراد منه الكفر، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ، وهو باطلٌ، وإن توقف على مرجح، فذلك المرجحُ إمَّا