هذا نحا الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال:«إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة؛ كالملائكة» .
وفيه نظرٌ؛ من حيث إيقاع «ما» على من يعقل، والمشهور خلافه.
قال ابن الخطيب:«ما» بمعنى «مَنْ» أي: إ لا من رحم ربي، و «مَا» و «مَنْ» كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر؛ قال تعالى:{فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء}[النساء: ٣] ، وقال:{وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ}[النور: ٤٥] .
والثاني: أنَّ «مَا» في معنى الزمان؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر، والمعنى: إنَّ النَّشفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ، إلَاّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ. ونظره أبو البقاءِ بقوله:{وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلَاّ أَن يَصَّدَّقُواْ}[النساء: ٩٢] ، وقد تقدَّم [النساء: ٩٢] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون «أنْ» واقعة موقع ظرف الزمان.
والثالث: أنه مستثنى من معفولِ «أمَّارةٌ» ، أي: لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رَحِمَهُ اللَّهُ، وفيه إيقاع «مَا» على العاقل.
والرابع: أنه استثناء منقطع، قال ابن عطيَّة: وهو قول الجمهور. وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة؛ كقوله:{وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ إِلَاّ رَحْمَةً مِّنَّا}[يس: ٤٣، ٤٤] .
فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له
هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى؛ لقوله تعالى:{إِلَاّ مَا رَحِمَ ربي} فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له، حصل ذلك الانصرافُ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل، والقدرةِ، والألطافِ، كما قاله القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ.