تكذيب ما رووهُ بأنَّه جلس منها موضع الرجلِ من امرأته، وهو عينُ الإيمانِ بالحقِّ.
واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدٍ الخيرينِ أفضل من الآخر؛ كما يقال: الجلابُ خيرُ من الماءِ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل؛ كما يقال:«الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله تعالى» .
يعني: الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: {وَلأَجْرُ الآخرة} : إن حملناه على الوجه الأوَّل، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وإذا حملتْ على الوجه الثاني، لزم أن يقال: منافع الآخرة خيرات، ولا شكَّ أن قوله تعالى:{وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} ، شرح حال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وجب أن يصدق في حقه أنَّه من {الذين آمنوا وكانوا يتقون} ، وهذا تنصيص من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين، إلَاّ الوقت الذي قال الله فيه:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}[يوسف: ٢٤] ، فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنَّهُ عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتَّقين.
وأيضاً: قوله تعالى: {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} شهادة من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من المحسنين، قوله:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين}[يوسف: ٢٤] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه، والله أعلم.
فصل
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ.
وهذا ضعيفٌ؛ لأنا إن حلمنا لفظ «خَيْرٌ» على التَّفضيل، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حلمناه على أصل معنى الخيرِ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير، والله أعلم.