أتجوعُ ويبدِكَ خزائِنُ الأرض؟ فقال: أخافُ إن شبعتُ نسيت الجياع، وأمر يوسفُ طبَّاخِي الملك أن يَجْعلُوا غذاءه نصف النهار؛ وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجُوعِ، ولا يَنْسَى الجَائعِينَ، من ثمَّ جعل الملوكَ غذاءهم نصف النَّهار.
وعمَّ القَحْطُ البلاد حتَّى أصاب أرض كنعان وبلاد الشام. ونزل بيعقوب ما نزل بالنَّاس؛ فأرسل بنيه إلى مصر؛ للميرة، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه، فذلك قوله تعالى:{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقُرياتِ من أرض فلسطين بغور الشام، وكانوا أهل باديةٍ، وإبل، وشاء، فقال لهم يعقوب: بلغنِي أنَّ بمصرَ مَلِكاً صالِحاً يبيعُ الطعامَ فتجهَّزوا، واذهبُوا؛ لتَشْتَروا منه الطعام، فقدوا على مصر، فدخلوا على يوسف، فعرفهم يوسفُ.
قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، ومجاهدٌ: عرفهم بأول ما نظر إليهم، وهم ما عرفوه ألبتة.
وقال الحسنُك لَمْ يعْرِفهُمْ حتَّى تعرَّفُوا إليه. وكان كلُّ من وصل إلى بابه من البلادِ، وتفَحَّصَ عنهُم، وتعرَّف أحوالهم؛ ليعرف هل هُمْ إخوتهُ أمْ لَا، فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم فظهر له أنهم إخوته، وأما كونهم ما عرفوه؛ فلأنه صلوات الله وسلامه عليه أمر حُجَّابُه بأنْ يُوقِفُوهم على البعد وما كان يتكلم معه إلَاّ بالواسطة أيضاً، فمهابة الملكِ، وشدةُ الحاجةِ، توجِبُ كثرة الخوفِ.
وأيضاً: إنما رأوهُ بعد وُفُورِ اللَّحيةِ، وتغير الزيِّ والهيئةِ؛ لأنَّهم رأوه جالساً على سريرٍ، وعليه ثيابُ الحرير، وفي عُنقِهِ طوقٌ من ذهبٍ، وعلى رأسه تاجٌ من ذهبٍ، وايضاً نسوا واقعة يُوسفَ؛ لطول المُدَّة، ويقال: إنَّ من وقْتِ ما ألقوهُ في الجُبِّ إلى هذا الوقت أربعين سنةً، وكلُّ واحدٍ من هذه الأسباب يَمْنَعُ حصول المعرفةِ لا سيّما عند اجتماعها.
قوله:{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} العامة على فتح الجيم وقرىء بكسرها، وهما لغتان، فيما يحتاجه الإنسان من زادٍ ومتاعٍ. منه: جِهَاز العرُوس، وجِهازُ الميت.
قال الليثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَهَّزْتُ القَوْمَ تَجْهِيزاً: إذا تكلَّفت لهُمْ جِهَازهُمْ للسَّفرِ، وقال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجِهازُ بالكسر.
قال الأزهريُّ:«القراءُ كلُّهم على فتح الجيم، والكسر لغةٌ ليست بجيدةٍ» .