والثاني: أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم في شاهد قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلُّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتَّة، فلمَّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحابُ يوسف صلوات الله عليه:{فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} فأجابوه، {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا:{جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي: فالسَّارقُ جزاؤه، أي: فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق، ويغرمه قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.
قوله تعالى:{جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} فيه أربعة أوجه:
أحدهما: أن يكون «جَزاؤهُ» مبتدأ، والضمير للسَّارق، و «مَنْ» شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني، والفاء جواب الشَّرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و «مَنْ» وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ، قاله ابن عطيَّة، وهو مردودٌ؛ لعدم رابط بين المبتدأ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه.
وليس بظاهر؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ فإنَّه قال:«ويجوز أن يكون» جَزاؤهُ «مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر، والأصل: جزاؤه، من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع» هو «كما تقول لصاحبك: مَنْ أخُوا زيدٍ؟ فيقول لك: من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُوا هو يرجع الضمير الأول إلى:» مَنْ «، والثاني إلى الأخِ، فتقولُ:» فهو أخوه «مقيماً الظاهر مقام المضمر» .
وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ، ولم يعتقد أنه هو بعينه، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة.
ثمَّ قال:«وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك، نحو: قام زيدٌ، وينزه عنه القرآن.
قال سيبويه:» لو قلت: كان زيدٌ منطلقا زيدٌ «لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: مازيدٌ مُنْطكلقاً هُوَ؛ لأك قد استغنيت عن إظَهاره، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره» .
قال شهابُ الدِّين: ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً، وعليه بنى الزمخشريُّ،