ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة؛ فقال - تعالى -: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله:{وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به.
ثم قال:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «يطيعونه، يقال: توليته، أي: أطعته، وتولَّيت عنه، أي: أعرضت عنه.
قوله:{والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} الضمير في» بِهِ «الظاهر عوده على الشيطان، لتتحد الضمائر، والمعنى: والذين هم به مشركون بسببه؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر: كفرت بهذه الكلمة، أي: من أجلها؛ فكذلك قوله:{والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} والمعنى: من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين.
وقيل: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، ويجوز أن يعود على» ربِّهِمْ «.
قوله:{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} والتَّبدِيل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وهو هنا النسخ.
قوله:{والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه.
والثاني: أنَّها حاليَّة؛ فعلى الأول يكون المعنى: والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم:» إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ «، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزِّل، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء؛ لأجل التَّبديل والنسخ، وقوله:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، وأن ذلك لمصالح العباد، وقولهم:» إنَّما أنْتَ مُفتَرٍ «نسبوا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر