للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة، إلا ما خصَّه الإجماع والدلائل القاطعة ك ان في محلِّ أن يخشى عليه؛ لأن هذه السورة دلَّت على أن حصر المحرَّمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أول زمان مكَّة وآخره، وأول زمان المدينة وآخره وأنه - تعالى - أعاد هذا البيان في هذه السورة، قطعاً للأعذار وإزالة للرِّيبة.

قوله - تعالى -: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلَالٌ وهذا حَرَامٌ} الآية لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة، بالغ في تأكيد زيادة الحصر، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة، وفي النُّقصان عنها أخرى؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام، وكانوا يقولون: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَ} [الأنعام: ١٣٩] فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات؛ لأنهم حلَّلوا الميتة، والدَّم، ولحم الخنزير، وما أهلَّ به لغير الله، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب.

قوله: «الكَذِبَ» العامة على فتح الكاف، وكسر الذَّال، ونصب الباء، وفيه أربعة أوجه: أظهرها: أنه منصوب على المفعول به، وناصبه: «تَصِفُ» ، و «مَا» مصدرية ويكون معمول القول الجملة من قوله: {هذا حَلَالٌ وهذا حَرَامٌ} ، و «لِمَا تَصفُ» علّة للنَّهْي عن قول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب، وإلى هذا نحا الزجاج [رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى] والكسائي.

والمعنى: لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة.

فإن قيل: حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار؛ لأن قوله: {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة.

الثاني: أن ينتصب مفعولاً به للقول، ويكون قوله: «هذَا حَلالٌ» بدلاً من «الكَذِب» ؛ لأنه عينه، أو يكون مفعولاً بمضمر، أي: فيقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، و «لِمَا تَصِفُ» علَّة أيضاً، والتقدير: ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه؛ وذلك أن القول يطلب الكذب، و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، اي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم، وفيه نظر.

الثالث: أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على «مَا» ، إذا قلنا: إنَّها بمعنى

<<  <  ج: ص:  >  >>