وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم ملَّة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منَّة؛ لأنَّه تحمَّل أنواع الشَّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم، وأمَّا الوالدُ فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه، فأخرجني إلى آفاتِ عالمِ الكون والفساد. ومن الكلمات المشهورة المأثورة:«خَيْرُ الآبَاءِ من عَلَّمكَ» والجواب:
هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع، إلَاّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والميرات؟ فسقطت هذه الشبهات.
واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة:{وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}[الإسراء: ١٩] ، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة. وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة.
ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد، وثنَّى بطاعة الله، وثلَّث ببرِّ الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة.
ومنها: أنه تعالى لم يقل: «وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ» ، بل قال:{وبالوالدين إِحْسَاناً} ، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام.
ومنها: أنه تعالى قال: «إحْسَاناً» بلفظ التنكير، والتنكير يدلُّ على التعظيم، أي: إحساناً عظيماً كاملاً؛ لأنَّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، وإن لم تحسن إليهما كذلك، فلا تحصل المكافأة؛ لأنَّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداءِ، وفي الأمثال المشهورة:«إنَّ البَادِئ بالبرِّ لا يُكَافأ» .