ثم عدد تلك الأجزاء غي رمعلومٍ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا قال تعالى:{ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .
وثانيها: أن الكفَّار، وإن كانوا يقرُّون بإثبات إله العالم إلَاّ أنهم ما كانوا يتفكَّرون في أنواع الدَّلائلِ، كما قال تعالى:{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف: ١٠٥] .
فكان المراد من قوله:{ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} هذا المعنى.
وثالثها: أنَّ القوم، وإن كانوا مقرِّين بألسنتهم بإثبات إله العالم، إلَاّ أنَّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته، ولذلك استبعدوا كونه قادراً على الحشر والنشر، فكان المراد ذلكز
ورابعها: قوله لمحمدٍ: «قُلْ» لهم: {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَاّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً}[الإسراء: ٤٢] ، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل، فلما قال:{تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} بصحَّة هذا الدليل وقوَّته، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل، ولا تعرفونه، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد، فقال تعالى:{ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} ، فذكر الحليم الغفور ها هنا يدلُّ على كونهم لا يفقهون ذلك التَّسبيح، وذلك جرم عظيمٌ صدر عنهم، وهذا إنما يكن جرماً، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالَّة على كمال قدرة الله وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم، ما عرفوا وجه تلك الدلائل، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرماً، ولا ذنباً، وإذا لم يكن جرماً، ولا ذنباً، لم يكن قوله:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} لائقاً بهذا الموضع.
واعلم أنَّ القائلين بأن الجمادات والحيوانات غير الناطقة تسبِّح بألفاظها، أضافوا إلى كلِّ حيوانٍ نوعاً من التسبيح، وقالوا: إنَّها غذا ذبحتْ لم تسبِّح، مع قولهم بأنَّ الجماداتِ تسبِّح، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبِّحاً، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التَّسبيح؟! .
وقالوا: إن عصا الشَّجرة إذا كسرت، لم تسبِّح، وإذا كان كونه جماداً، لم يمتنع من كونه مسبِّحاً، فكيف يمنع ذلك من تسبيحها بعد الكسر؟ وهذه كلمات ضعيفة.
فصل في تسبيح السماوات والأرض
دلَّت هذه الآية على أنَّ السماوات والأرض ومن فيهن يسبِّح الله تعالى، فتسبيح السماوات والأرض ليس إلَاّ بمعنى تنزيه الله، وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجازٌ، وأما تسبيح المكلَّفين فهو قول:«سُبحَانَ الله» ، وهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله «تُسبِّحُ» لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً، وهو باطل لم يثبت في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على المجاز في حقِّ العقلاء وغيرهم؛ لئلَاّ يلزم هذا المحذورُ.