أولها: أن يقال: ماهية الروح، هل هي متحيِّز أو حالٌّ في المتحيِّز.
وثانيها: أن يقال: الروح قديمة، أو حادثة؟ .
وثالثها: أن يقالك الروح، هل تبقى بعد الأجسام، أو تفنى؟ .
ورابعها: أن يقال: ما حقيقة سعادة الأرواح، وشقاوتها؟ .
وبالجملة: فالمباحثُ المتعلقة بالروح كثيرة.
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} ليس فيه ما يدلُّ على أنَّهم سألوه عن أيِّ المسائل، إلا أنه تعالى ذكر في الجواب عن هذا السؤال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وهذا الجواب لا يليقُ إلا بمسألتين من هذه المسائل التي ذكرناها:
إحداهما: السؤال عن ماهية الروح.
والأخرى: عن قدمها، أو حدوثها.
أما البحث الأول: فهم قالوا: ما حقيقة الروح وماهيته؟} أهو أجسامٌ موجودة داخلة في البدنِ مولدةٌ من امتزاجِ الطبائع والأخلاط؟ أو هو عبارة عن نفس هذا المزاجِ والتركيب؟ أو هو عبارة عن عرض قائم بهذه الأجسام؟ أو هو عبارة عن موجودٍ يغاير هذه الأجسام، والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنَّه موجودٌ مغايرُ لهذه الأجسام، ولهذه الأعراض؛ وذلك لأن لهذه الأجسام، ولهذه الأعراض أشياء تحدثُ عن امتزاجِ الأخلاط والعناصر.
وأمَّا الروح، فإنه ليس كذلك، بل هو جوهرٌ، بسيطٌ، مجردٌ، ولا يحدث إلا بمحدثٍ يقول له: «كن فيكون» ، فأجاب الله عنه بأنه موجود محدث بأمر الله وتكوينه، وتأثيره في إفادة الحياة بهذا الجسدِ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه؛ فإنَّ أكثر حقائقِ الأشياءِ، وماهيَّاتها مجهولة؛ فإنَّا نعلم أنَّ السكنجبين له خاصيةٌ في قطع الصفراء؛ فأمَّا إذا أردنا أن نعرف ماهيَّة تلك الخاصِّيَّة، وحقيقتها المخصوصة، فذلك غير معلوم؛ فثبت أنَّ أكثر الحقائق مجهولةٌ، ولم يلزم من كونها مجهولة بعينها عدمُ العلم بخاصِّيَّتها، فكذا ها هنا؛ وهذا المراد بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلَاّ قَلِيلاً} .
وأما البحثُ الثاني: فهو أنَّ لفظ الأمرِ قد جاء بمعنى الفعل؛ قال تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: ٩٧] .
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: ٨٢] أي: فعلنا.
فقوله تعالى: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . أي: من فعل ربِّي.
وهذا الجواب يدلُّ على أنَّهم سألوه عن الروح، قديمة أو حادثة، فقال: بل حادثة، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه.