اختلفوا في هذا الرُّوح، فالأكثرون على أنَّه جبريل - صلوات الله عليه - لقوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين}[الشعراء: ١٩٣] وسُمِّي روحاً؛ لأنَّ الدِّين يحيى به.
وقيل: سُمِّي رُوحاً على المجازِ؛ لمحبته، وتقريبه، كما تقول لحبيبك: رُوحِي.
وقيل: المرادُ من الرُّوح: عيسى - صلوات الله عليه - جاء في صورة بشرٍ، فحملت به، والأول أصحُّ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد، حسن الوجه، جعد الشَّعْر، سويِّ الخلق وقيل: في صُورة تربٍ لها، اسمه يوسفُ، من خدم بيت المقدس.
قيل: إنما تمثَّل لها في صورة بشر؛ لكي لا تنفر منه، ولو ظهر في صورةِ الملائكة، لنفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه، وهاهنا إشكالات:
الأول: أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن، فحينئذ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس؛ لاحتمالِ أن الملك، أو الجنِّي تمثَّل بصورته، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ، ولا يقال: هذا إنَّما يجوز في زمانِ [جواز] البعثة، فأما في زماننا فلا يجوز.
لنا أن نقول: هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل، فالجاهلُ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ.
الثاني: أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل - صلوات الله عليه - شخصٌُ عظيمٌ جدًّا، فذلك الشخصُ - كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء، وهو محالٌ.
الثالث: أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل - صلوات الله عليه - في صورة الآدمي، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ؛ كالذُّباب، والبقِّ، والبعُوضِ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا، وهو باطلٌ.
الرابع: أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ، لم يكُن محمَّداً - صلوات الله عليه وسلامه - بل كان شخصاً يشبهه، وكذا القولُ في الكُلِّ.
والجوابُ عن الأوَّل: أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه، وإذا جوَّزنا ذلك، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي