غارٍ، ومكثَ أربعين يوماً؛ حتَّى طهرتْ من نفاسها، ثم حملته مريمُ إلى قومها، فكلَّمها عيسى في الطَّريق؛ فقال: يا أمَّاه، أبشري؛ فإنِّي عبد الله، ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصَّبِيُّ، بكَوْا، وحَزِنُوا، وكانُوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا {يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} عظيماً مُكراً.
قال أبو عبيدة: كُلُّ أمرٍ فائق من عجب، أو عملٍ، فهو فَرِيٌّ؛ وهذا منهم على وجه الذَّمِّ، والتوبيخ؛ لقولهم بعده:{ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} .
قوله تعالى:{ياأخت هَارُونَ} يريدون: يا شبيهة هارون، قال قتادةُ، وكعبٌ، وابنُ زيدٍ، والمغيرة بنُ شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: كان هارُون رجلاً صالحاً مقدِّماً في بني إسرائيل، رُوِيَ أنَّهُ تبعَ جنازتهُ يوم مات أربعُون ألفاً، كلُّهم يسمَّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس، شبَّهُوها به على معنى أنَّنا ظننَّا أنَّك مثلهُ في الصَّلاح، وليس المرادُ منه الأخُوَّة في النَّسب؛ كقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين}[الإسراء: ٢٧] .
روى المغيرةُ بنُ شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لما قدمتُ [خراسان] سالُوني، فقالوا: إنَّكم تقرءون: {ياأخت هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلمَّا قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سألتهُ عن ذلك، فقال: إنَّهم كانُوا يُسمَّون بأنبيائهم والصَّالحين قبلهم.
قال ابن كثيرٍ: وأخطأ محمَّد بن كعبٍ القرظيُّ في زعمه أنَّها أختُ موسى وهارون نسباً؛ فإنَّ بينهما من الدُّهُور الطَّويلة ما لا يخفى على من عندهُ أدنى علم، وكأنَّه غرَّه أنَّ في التَّوراة أن مريم - أخت موسى، وهارون - ضربت بالدُّفِّ يوم نجَّى الله موسى وقومه، وغرقَ فرعونُ وجُنودُه، فاعتقد أنَّ هذه هي تلك، وهذا في غاية البُطلان ومخالفةٌ للحديث الصحيح المتقدِّم.
وقال الكلبيُّ: كان هارونُ أخا مريم من أبيها، وكان أمثل رجُل في بني إسرائيل.
وقال السُّديُّ: إنَّما عنوا به هارُون أخا موسى، لأنَّها كانت من نسله، كم يقال