ذكرتُ حال زكريَّا، فتذكر حال إبراهيم - صلواتُ الله عليه - وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه - صلوات الله عليه - ما كان هُو، ولا قومُه، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم، ومطالعةِ الكتب، فإذا أخبر عن هذه القصَّة، كما كانت من غير زيادةٍ، ولا نقصانٍ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب، ومُعْجِزاً [قاهراً] دالَاّ على نُبُوَّته، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لوجوه:
الأول: أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - كان أبا العرب، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شانه، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج: ٧٨] ، وقال تعالى:{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}[البقرة: ١٣٠] فكأنه تعالى قال للعرب: إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ}[الزخرف: ٢٣] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم - صلوات الله عليه - فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان، وإن كُنتم [مستدلين] ، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان، وبالجملةُ: فاتَّبِعُوا إبراهيم، إمَّا تقليداً، أو استدلالاً.
الثاني: أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - كانوا يقولون: نتركُ دين آبائنا، وأجدادنا؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - و [بيَّن] أنه ترك دين أبيه، وأبطل قوله بالدليل، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه.
الثالث: أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد، [وينكِرُون] الاستدلال؛ كما حكى الله تعالى عنهم {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}[الأنبياء: ٥٣] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم، ثُمَّ قال تعالى في صفة الصِّدق، القائم عليه، يقال: رجلٌ خميرٌ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال.
وقيل: هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به، والأول أولى؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلَاّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوّل.
فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون}[الحديد: ١٩] فالجوابُ: المؤمنون بالله [ورسله] صادقُون في ذلك التَّصديق.
واعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه، ومُصدَّق الله صادقٌ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله