أحدها: كأنه تعالى قال: إني رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قبل سؤالك فكيف لا أُعطيك مرادك بعد السؤال.
وثانيها: إني كنت ربيتُك فلو منعتك الآن كان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان، فكيف يليق بكرمي.
وثالثها: إنا أعطيناك في الأزمنةِ السالفةِ كلَّ ما احتجتَ إليه، ورقَّيْنَاكَ إلى الدرجة العالية، وهي درجة النبوة، فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع عن المطلوب. ومعنى «مَنَنَّا عَلَيْكَ» أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ «مَرَّةً أُخْرَى» فإن قيل: لِمَ ذكر تلك النِّعَم بلفظ المنّة مع أن هذه اللفظة مؤذية والمقامُ مقامُ التلطف؟
فالجواب: إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها، بل إنما خصَّه الله بها لمحض التفضل والإحسان.
فإن قيل: لم ثال: «مَرَّةٌ أُخْرَى» مع أنه تعالى ذكر «مِنَنَاً» كثيرة؟
فالجواب: لَمْ يُعْنِ ب «مَرَّةٌ أُخْرَى» مرة واحدة من المنن، لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير.
قوله:«إذْ أَوْحَيْنَا» العامل في «إذِ مَنَنا» أي مننا عليك في وقت إيحائنا إلى أمك، وأبهَمَ في قوله:«مَا يُوحَى» للتعظيم كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ}[طه: ٧٨] وهذا وحي إلهام، لأن الأكثرين على أن أم موسى - عليه السلام - ما كانت من الأنبياء، وذلك لأن المرأة لا تصلح للقضاء والإمامة، ولا تمكن عند أكثر العلماء من تزويج نفسها، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ}[الأنبياء: ٧] .