البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين، فلم يستطعا السجود، وتفرقت قريش، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذِّكر، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه جبريل، فقال: يا محمد مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ ما لم أنزل به عن الله عَزَّ وَجَلَّ، وقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فحزن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً عظيمً فأنزل الله هذه الآية يعزيه، وكان به رحيماً.
قال ابن الخطيب: وأما أهل التحقيق فقالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول: أما القرآن فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين}[الحاقة: ٤٤ - ٤٦] ، وقوله:{قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَيَّ}[يونس: ١٥] ، وقوله:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يوحى}[النجم: ٣ - ٤] . فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله: تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله:{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}[الإسراء: ٧٣] وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وقوله:
{وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ}[الإسراء: ٧٤] وكلمة «لَوْلَا» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره، فذلك دل على أن الركون القليل لم يحصل، وقوله:{لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}[الفرقان: ٣٢] ، وقوله:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تنسى}[الأعلى: ٦] وأما السنة: فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال: رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق.