يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم، وذلك هو المحكم. وقال أبو مسلم: معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل: وما أرسلنا إلى البشر ملكاً (وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم) ، وما أرسلنا من نبي خلا عند تلاوته من وسوسة الشيطان، وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك، وبطلان ما يكون من الشيطان، قال: وفيما تقدم من قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[الحج: ٤٩] تقوية لهذا التأويل، كأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين: أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل الله قبلي ملكاً، وإنما أرسل رجالاً فقد يوسوس الشيطان إليهم.
فإن قيل: هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة. قلنا: إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على الملائكة. واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين:
الأول: كيفية إزالتها، وهو قوله:{فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} والمراد إزالته وإزالة تأثيره، وهو النسخ اللغوي، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
وأما قوله:{ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن، وإلا فيُحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط.
البحث الثاني: أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً، أما في حق الكفار فهو قوله:{لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} ، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، والمراد به تشديد التبعد، لأن ما يظهر من الرسول - عليه السلام - من الاشتباه في القراءة سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً.