إلا أَنْ قَالُوا له استهزاء {ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أن العذاب نازل بنا فعند ذلك قال لوط: {رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين} بتحقيق قولي في العذاب.
فإن قيلَ: قال قوم «إبراهيم» اقتلوه أو حرّقوه، وقال قوم لوط {ائتنا بعذاب الله} وما هددوه (مع) أن «إبْرَاهِيمَ» كان أعظم من «لوط» فإن لوطاً كان من قومه.
فالجوابُ: أن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله: «لا تُبْصِرُ ولا تَسْمَع ولا تَنْفَعُ، ولا تُغْنِي» ، والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم، وينبههم إلى ارتكاب التحريم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم وقالوا: إنك تقول: إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول: لا نعذب فإن كنت صادقاً فتِنَا بالعذَابِ.؟
فإن قيل: إن الله قال في موضع آخر: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ}[النمل: ٥٦] .
وقال هنا:{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا} فكيف الجمع؟
فالجوابُ: أن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً على النهي والوعيد فقالوا (أولاً) ائتنا (ثم) لما كثر منه ولم يسكت عنهم قالوا: «أخرجوا» . ثم إنَّ لوطاً لما يَئِسَ منهم طلب النُّصْرَةَ من الله وذكرهم بما لا يحب الله فقال «رب انصرني على القوم المفسدين} (فإن الله لا يحب المفسدين) حتى يُنْجِزَ النَّصْرَ.
واعلم أن كُلَّ نبي من الأنبياء ما طلب هلاكٌ قَوْمه إلا إذا علم أن عدمَهُمْ خيرٌ من وجودهم، كما قال نوحٌ {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يلدوا إِلَاّ فَاجِراً كَفَّاراً}[نوح: ٢٧] ، يعني: أن المصلحة إما أن تكون فيهم حالاً، أو بسببها مآلاً ولا مصلحة فيهما، فإنهم ضالون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون أولادهم من صغرهم بالامتناع عن الأَتباع وكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، واشتغلوا بما لا يُرْجَى منهم ولد صالح يعبد الله فطلب المصلحة حالاً ومآلاً، فعدمهم صار خيراً، وطلب العذاب.