للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا أشك أني جئت راكبا. قال: فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء، وأن حال اليقظان كحال النائم؟ فوجم السوفسطائي ورجع عن مذهبه (١).

[فصل]

قال أبو محمد النُّوبَخْتي: وقد زعمت فرقة من المتجاهلين (٢) أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مرًّا، ويجده غيره حلوا، قالوا: وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدثه، واللون جسم (٣) عند من اعتقده جسما، عرض (٤) عند من اعتقده عرضًا، قالوا: فلو توهمنا عدم المعتقدين وقف الأمر على وجود من يعتقد.


(١) ومما يذكر كذلك في هذا الموضوع قصة القاضي الباقلاني مع جماعة من السوفسطائيين: إذ لما نزلوا ودخلوا عليه أمر القاضي بأخذ مطايا القوم من أيدي خدمهم، وبدّلها بقردة، فلما فرغوا من الكلام مع القاضي، خرجوا فوجدوا قردةً بدلًا من مطاياهم، فضجوا في طلب المطايا، فقال لهم: ما هي إلا مطاياكم، وإنما تخيل إليكم أنها قردة وأنتم لا تثبتون حقيقة، فأفحموا بالحجة، وعلموا أن ذلك لقطع ما بأيديهم. انظر: عيون المناظرات للسكوني (ص ٢٤٩).
(٢) هذا كلام صنف من أصناف السوفسطائية الثلاثة، وهم القائلون بأن الحقائق هي على حسب ما يعتقده كل إنسان، من نفي أو إثبات، أو وجود أو عدم. وقد سمّاهم شيخ الإسلام ابن تيمية: "السوفسطائية المتجاهلة اللا أدرية"، وذكر أن من القائلين بهذا الرأي ابن عربي زعيم أهل الوحدة، إذ يرى أن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب. انظر: الصفدية (١/ ٩٧ - ٩٨)، الفصل لابن حزم (١/ ٤٣)، والأصول والفروع له أيضًا (ص ١٥٢)، والصواعق المرسلة لابن القيم (٢/ ٦٤٩)، والموسوعة الفلسفية لبدوي (١/ ٥٨٨ - ٥٩٢).
(٣) جسم: هو القابل للأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق عند المعتزلة، وعند الأشاعرة هو المركب المؤلف من الجوهر.
انظر: تعريفات الجرجاني (جسم)، الشامل للجويني (ص ٤٠٢)، مقالات الأشعري (٢/ ٥ - ٦).
(٤) عرض: هو عند المعتزلة: ما يعرض في الوجود ولا يجب لبثه. وعند الأشاعرة: هو المعنى القائم بالجوهر كالألوان والطعوم والروائح. انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص ٢٣٠)، المواقف للإيجي (ص ٩٦)، الشامل للجويني (١٦٧).

<<  <   >  >>