للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[فصل]

وقد لبَّس إبليس على أقوام من أهل ملتنا (١)، فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنهم، فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة؛ لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة كما يُنقل من حكمة سقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وجالينوس، وهؤلاء قد كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أمورًا خفية، إلا أنه لما تكلموا في الإلهيات خلطوا (٢)، ولذلك اختلفوا فيها، ولم يختلفوا في الحسابيات والهندسيات، وقد ذكرنا (٣) جنس تخليطهم في معتقداتهم.

وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك تلك العلوم إلا جملةً، والرجوع فيها إلى الشرائع (٤)، وقد حكي لهؤلاء المتأخرين في أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس (٥) وحِيَلًا، فصدقوا ما حكي لهم عنهم فرفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا المحظورات واستهانوا بحدود


(١) كان من أكابرهم في الله -كما يقول ابن خلدون- أبو نصر الفارابي، وأبو علي ابن سينا بالمشرق، والقاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس … إلى آخرين. مقدمة ابن خلدون (٣/ ١١٢٤). وقد ذكرهم بتفصيل أكثر الشهرستاني في الملل والنحل (٢/ ٤٨٧ - ٤٩٠). وانظر: الرد على المنطقيين (ص ١٤١ وما بعدها)، والصفدية (١/ ٢٣٧).
(٢) قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ولا ريب أن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل، وفيه خطأ كثير، بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير، وصوابه فيه كثير). درء تعارض العقل والنقل (١٠/ ١٤٣).
(٣) انظر: (ص ١٧٤).
(٤) انظر: درء تعارض العقل والنقل (٩/ ٧ - ٣٠) ففيه تفصيل لأنواع العلم والمعرفة، وما يستقل فيه العقل، وما لابد فيه من الشرع.
(٥) نواميس: هي عند الفلاسفة: السنن التي تضعها الحكماء للعامة؛ لوجه من المصلحة. وعند الفقهاء وغيرهم من الإسلاميين: هي الشرائع التي شرعها الله تعالى.
انظر: مفاتيح العلوم (ص ١٦١)، التعريفات (ص ٢٤٩)، التوقيف للمناوي (ص ٦٨٩).

<<  <   >  >>