للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولقد بلغني (١) أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف، قال ناس من أصحاب رسول الله : إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك. فقال كعب: سبحان الله، وما تخافون على عبد الرحمن؟! كسبَ طَيِّبًا وأنفق طيِّبًا وترك طيِّبًا. فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مُغضبًا يريد كعبًا، فمر بلحي بعير فأخذه بيده ثم انطلق يطلب كعبًا، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك، فخرج هاربًا حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر، فأقبل أبو ذر يقتص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخلوا قام كعب فجلس خلف عثمان هاربًا من أبي ذر، فقال له أبو ذر: هيه يا ابن اليهودية! تزعُمُ ألا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف، لقد خرج رسول الله يومًا فقال: "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا" (٢) ثم قال: "يا أبا ذر وأنت تريد الأكثر وإنا نريد الأقل"، فرسول الله يريد هذا وهذا وأنت تقول: يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف! كذبت وكذب مَنْ قال. فلم يرد عليه حرفًا حتى خرج (٣).

قال الحارث (٤): فهذا عبد الرحمن في فضله يُوقف في عَرْصَة القيامة بسبب ما كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف، فمنع من السَّعي إلى الجنَّة مع الفقراء المهاجرين، وصار يحبو في آثارهم حبوًا (٥)، وقد كانت الصحابة إذا لم يكن عندهم شيء فرحوا وأنت تدَّخر المال وتجمعه خوفًا من الفقر! وذلك من سوء الظن بالله وقلة اليقين بضمانه، وكفى به إثمًا، وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها ولذاتها! وقد بلغنا أن رسول الله قال: "مَنْ أَسِفَ على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة


(١) القائل هو الحارث المحاسبي، النصائح (ص ٧٨).
(٢) أصله في الصحيح أخرجه البخاري (٥/ ٥٤ رقم ٢٣٨٨)، ومسلم (٢/ ٦٨٧ رقم ٩٤)، وابن ماجه (٢/ ١٣٨٤ رقم ٤١٣٠)، وأحمد (٥/ ١٥٢).
(٣) النصائح (ص ٧٨).
(٤) النصائح (ص ٧٩ - ٩٠) مطوّلًا.
(٥) سيأتي تخريجه (ص ٤٥٠) حيث ساقه المؤلّف هناك بسنده.

<<  <   >  >>