الصلاة والسلام، ثم ما كان في المسجد الأَقْصى، ثم ما كان أَهله أَكثر من الجوامع.
(بِنِيَّتِهِ) أَي بِقَصْد الاعتكاف، فإِنها المُمَيِّزة بين العادة والعبادة، فالصوم شَرْط عندنا وعند مالك وقال الشافعي وأَحمد: ليس بشرط، لِمَا في الصحيحين عن ابن عمر أَنه قال: يا رسولَ الله إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ في المسجد الحرام ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام:«أَوْفِ بِنُذْرِكَ». وفي «سنن الدَّارَقُطَنِيّ» عن عبد الله بن عمر، أَنَّ عمر رَضِيَ الله عنه: نَذَرَ في الجاهليةِ أَنْ يَعْتَكِفَ ليلةً في المسجدِ الحرام، فَلَمَّا كانَ الإِسلامُ سأَل عنه عليه الصلاة والسلام فقال:«أَوْفِ بِنَذْرِكَ»، فاعتكف عمرُ ليلةً.
ولنا ما روى أَبو داود من حديث عائشةَ أَنها قالت: مَضَتِ السُّنَّةُ على المُعْتَكِفِ أَنْ لا يعودَ مَرِيضاً، ولا يَشْهَدَ جَنَازَةً، ولا يَمَسَّ امرأَةً ولا يُبَاشِرَهَا، ولا يخرجَ لِحاجةٍ إِلاَّ لِمَا لا بُدَّ منه ـ أَي مِنَ البَوْلِ والغَائِطِ ـ، ولا اعْتِكَاف إِلاَّ بِصَوْم، ولا اعْتِكَافَ إِلاَّ في مَسْجِدٍ جَامِع. وأَيضاً لم يُرْوَ أَنه عليه الصلاة والسلام اعتكف بلا صيام، والمواظبةُ من أَدلة الوُجُوب.
فإِنْ قيل في «الصحيحين» أَنه عليه الصلاة والسلام اعتكف العَشْر الأُوَل من شَوَّال، أُجِيبَ بأَنه ليس فيه دلالة على أَنه كان صائماً أَوْ مفطراً، وأَمَّا حديث اعتكاف عمر، فرواه أَبو داود والنسائي والدَّارَقُطْنِيّ بلفظ: أَنَّ عمر رَضِيَ الله عنه جَعَلَ على نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ في الجاهلية ليلةً، أَوْ يوماً، عند الكعبةِ فسأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:«اعتكف وصُم». ولفظ النسائي والدَّارَقُطْنِيّ: فأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ ويَصُومَ. وروى الدَّارَقُطْنِيّ والبيهقي عن سُوَيْدِ بن عبد العزيز، عن سفيانَ بن حسين، عن الزُّهْرِيِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ مرفوعاً:«لا اعتكاف إِلاَّ بالصوم». وقد رُوي عن عَطَاء موقوفاً، وروى عبدُ الرَّزَّاق في «مُصَنَّفِهِ» عن عائشةَ وابن عباس: «مَنْ اعتكفَ فعليه الصَّوْمُ». وروى البيهقي من قول ابن عمر:«المُعْتَكِفُ يَصُومُ».
وأَمَّا ما رواه الحاكم وصححه عن ابنِ عباس: أَنْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على المُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلاَّ أَنْ يجعله على نفسه»، فَمُعَارَضٌ بما قَدَّمْنَاهُ، فيُجْعَلُ مَرْجِعُ الضميرِ (١) ـ في قوله ـ إِلا أَنْ يجعله ـ للاعتكاف، فيكون دليل اشتراط الصوم في الاعتكاف المنذور دون النفل،
(١) أي مَرْجع الضمير المتصل بالفعل: "يجعله" إلى كلمة: "المعتكف" الواردة في الحديث السابق الذِّكر.