لأكثر من سبب، أولها انفتاحها على الأقاليم والأرياف المجاورة لها. وثانيها بعدها عن العاصمة التي بقيت مركز ثقل الوجود الاستعماري. ولهذا فقد وقع على قسنطينة عبء الاحتفاظ بأصالة الجزائر كلها. فلا غرابة أن تكون مهدا لحركات المقاومة، وأن تحتضن كل الحركات الإصلاحية، ثم أن تدفع للثورة ضد الاستعمار بأكبر عدد من رجالها وأبنائها.
وهكذا ففي هذا المحيط الفاضل ولد ابن باديس سنة ١٣٠٥ هـ = ١٨٨٩ م. وبدأ خطواته الأولى في التعلم بمدارسها حتى إذا أكمل تعليمه، تاقت نفسه لانتهال المزيد من العلم. ووجد في والده (محمد المصطفى) خير مشجع للمضي على درب العلم والمعرفة، ولا ريب أن الوالد قد وجد في ابنه من الفضائل ما بعث فيه الأمل (ببعث أمجاد البيت الباديسي الشهير في التاريخ بتأسيس الدولة الحمادية).
فقال له منذ أول عهده بتلقي العلم:(يا عبد الحميد - أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عيك، وأقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فاكفني أمر الآخرة. كن الولد الصالح العالم الذي ألقى به وجه الله).
وترددت دعوة الأب بأصدائها القوية في أعماق نفس عبد الحميد، فمضى في سنة ١٩٠٨ إلى تونس الخضراء - حيث منارة العلم الإسلامي في جامعة الزيتونة - وانصرف ينهل من ينابيع العلم الصافية، حتى إذا ما مضت عليه أربعة أعوام من الجهد المتصل والعناء المستمر، أدرك أنه بلغ المرتبة التي تؤهله للانتقال من