فيه على ذكرى الراحل الذي لا زال قبره رطبا نديا، وجاءت الأمطار الآن لترويه. ولعل روح (عقلي) كانت ترفرف في تلك اللحظة فوق المنزل المهتز، وخرق (سليمان) جدار الصمت، وهو يقول بلهجة حازمة:(أبتاه! أريد أن أخرج أنا أيضا).
كان الأب يعرف يقينا ما تعنيه كلمة (الخروج). ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد جاءت هذه الجملة بمثابة ضربة مباغتة أذهلته، ونظر في وجه ابنه مستوضحا متسائلا، ولم يتركه (سليمان) في حيرته، فعاد يلفظ كلماته بلهجة أكثر تصميما، وأكثر ثباتا، وهو يقول:(نعم! سأخرج لألتحق بالثوار - الماكي -).
كانت الأم منطوية على ذاتها وهي أقرب ما تكون إلى الموقد، فانتفضت من غفوتها، وكأن صاعقة نزلت على رأسها لدى سماع الكلمات التي لفظها ابنها (الثوار - الماكي). فهل أراد لها الله أن تفجع بإبنها هذا أيضا، والذي سيلقى ذات المصير الذي نزل بإبنها الآخر؟ لا! إنها لن تسمح بأن يأخذوا منها هذا! كلا، إنها لن تسمح له بالخروج. هل يجب عليها أن تجاهد وحدها ضد هذا العالم؟ غير أن هذا الهيجان لم يلبث أن تلاشى بغتة - كما ظهر -. فلماذا تعترض سبيل ابنها وتمنعه من الخروج؟ قد يكون الخطر الذي يتهدد القرية، ويجتاحها باستمرار، أكبر من ذلك الخطر الذي يتعرض له الثوار. وعند هذه الفكرة، تركت رأسها يسقط بين يديها، وعادت إلى غفوتها، وما لبثت أن راحت في نوم عميق. وتبعها ابنها (سليمان) الذي ما لبث طويلا حتى راح غارقا في نوم عميق. غير أن حلما مفزعا هز كيانه:(لقد رأى فيما يراه النائم، بأنه يسير في غابة كبيرة - إنها الغابة التي عرفها جيدا منذ أيام مراهقته - يرعى فيها الماعز، عندما ظهر له أخوه (عقلي) بغتة وهو يقترب