لقد تعرفت في بداية فترة اعتقالي على شاب صغير، يفيض رجولة وشجاعة، شعره كستنائي، لا تفارق الابتسامة العذبة وجهه بالرغم من كل ما كان يتعرض له من آلام التعذيب. وفي يوم، أخذه الافرنسيون، وأشبعوه ضربا طوال فترة الصباح، وليس بإمكان أحد أن يعرف كيف تحول هذا الشاب الوديع إلى إنسان شرير يكره العالم كله اعتبارا من تلك اللحظة ... وعاد الافرنسيون فأخذوه مرة أخرى بعد أسبوع لتعذيبه من جديد، واقتلعوا في هذه المرة إحدى عينيه، وقطعوا له نصف أذنه. وفي الغد سمعناه يضحك ويغني وهو في زنزانته بصوت فقد كل الصفات الانسانية. لقد جن المسكين وفقد عقله. وهناك المئات، والآلاف، من أبناء الجزائر الذين يتعرضون لهذا المصير ذاته.
وفي السنة الماضية أراد رجلان - كنت قد تعرفت عليهما -الهرب من السجن، فعملا على حفر دهليز - نفق - من زنزانتهما، واستمرا في الحفر طويلا خلال الليل، أما في النهار فكانا يضعان التراب الذي يستخرجانه تحت الدف الخشبي الذي يستخدمانه فراشا لهما، ويموهان الفتحة بغطاء أيضا. وفي يوم، ظنا أنهما قد أوغلا في الحفر إلى درجة كافية. فدخلا الدهليز - النفق - الذي كان ينتهي لسوء الحظ بفتحة ضيقة (بالوعة). وظن الجميع أنهما تمكنا من الهرب. ولكن لم تمض سوى أيام قليلة، حتى انتشرت في السجن رائحة نتنة لا يمكن احتمالها. وأسرع حرس السجن لتوسيع الدهليز الذي حفره الرجلان بأيديهما، حتى إذا ما وصلوا إليهما، وجدوهما مختنقين، وقد أخذت جثتاهما بالتفسخ والتعفن ...).
توقف (سليمان) عن متابعة حديثه، وارتجف صوته، وانحدرت دموعه سخية على وجنتيه. ولم يعرف والده بماذا يحدثه،