رأس أبيه، غير أنه عاد فتجلد فورا، وتحامل على نفسه: إنها ليست اللحظة المناسبة للانفعال وتفجر العاطفة. ووقف، وبقفزة واحدة وصل إلى الباب. كانت الأم لا تزال نائمة، ولم تشعر بخروج إبنها. أفاد (سليمان) من بقايا عتمة الفجر لاجتياز سياج الأسلاك الشائكة الذي أقامه الافرنسيون لتطويق القرية وعزلها. وما هي إلا فترة قصيرة حتى كان في الغابة. وكان وصوله إليها، ووجوده فيها، كافيان لإثارة كل مشاعر البهجة في نفسه.
ثارت في نفس (سليمان) مجموعة من العواطف والانفعالات التي لا يمكن وصفها. وانتابته موجة من الحماسة الدافقة، فأخذت دقات قلبه في التسارع. وتوقف عن السير حتى يفسح لأفكاره الفرصة للانطلاق، فكانت كل حركة في هذا الصمت الرائع كافية لإفساد خلوته مع نفسه، وقطع تسلسل أفكاره. إنه يشعر بقوة جديدة تهز كيانه، قوة كلها رغبة في العمل. إنه يدرك تماما بأنه أصبح رجلا. وها هي نظراته التي يمتزج فيها الغضب والتحدي بالتقزز والنفور، وهي تتجه إلى الثكنة العسكرية التي لا زالت نائمة. وفي وسطها الظلام الحالك.
كان شعوره بالفرحة يتعاظم بصورة نسبية مع تعاظم أفكاره، حتى بلغت البهجة درجة من القوة بات من الصعب عليه البقاء ساكنا، فانطلق يثير الصخب في الغابة الصامتة، يركض تارة، ويتمهل في مشيه مرة أخرى، ويرسل صوته عاليا ليستمع إلى صداه. لقد شعر أنه يستمتع بحريته إلى أبعد الحدود. وملأ رئتيه بهواء الجبال النقي المنعش، فالهواء هنا يعبق بشذي (الراتنج) ورائحة الشجيرات دائمة الخضرة. ومر في خاطره طيف سجن (تيزي - أوزو) كومضة البرق. فأغمض جفنيه، وأخفى عينيه، وكأنهما تعبتا