القرن التاسع عشر حتى كانت هذه المقاومة الإيجابية قد وصلت إلى نهاياتها. ثم جاءت فترة صمت، لم يسمع خلالها صوت يرتفع بالاحتجاج أو يطالب بحق. وقد يتبادر للذهن هذا السؤال: كيف حافظ الفلاح على ثوريته، بعد الضربات المتوالية التي وجهتها السلطات الاستعمارية الى كيانه الاجتماعي ونظامه الاقتصادي؟ .. وكيف يمكن للفلاح أن يبقى ثوريا بعد أن افتكت أرضه منه؟ أليست الأرض هي مصدر هذه الطاقات الثورية المتفجرة؟ .. والجواب هو أن الفلاح الذي تفتت كيانه الاجتماعي على أيدي قادة الاحتلال الفرنسي، لم يعدم بقية من آثار هذا الكيان المرتبط بالأرض، نقلت له في إطار تقاليد توارثها أبا عن جد، من خلال حلقات السلسلة التاريخية التي تربط عهد قيام كيانه الاجتماعي بتاريخه الحديث.
إن الفلاح إذا ارتبط بالأرض ارتباطا وثيقا وسليما، وإذا دام هذا الارتباط مدة تمكنه من الإثمار، فقد حمل في نفسه آثارا عميقة لا يمحوها الزمن، ولا يزيلها تعاقب الأحداث. وكانت هذه الآثار شبيهة بما تركته الأشجار الباسقة من آثار في طول عنق الزرافة - بحسب نظرية داروين في النشوء والارتقاء وإن كنا لا نؤمن بها والا نعتقد بصحتها -. وإن الذي يعيش في قرية من قرى الجزائر، ثم تتاح له فرصة التأمل في بنائها الاجتماعي من الخارج، وفي العادات المتوارثة في هذا البناء، سرعان ما يدرك وجود بقية من تقاليد وعادات ترجع إلى عهد الحياة الجماعية للفلاحين. فبالرغم من أن كل فلاح له أرضه التي تفصلها عن أرض جاره حدود معينة، فإن مضمون العلاقات التي تربط بين الفلاحين بقي جماعيا.
فنظام (الخماسة والقطاعة والجيارة والمزارعة والتويزة) كلها أنواع من التعاون والتكامل الاجتماعي في مجتمع القرية.