للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومضمون كلمة (البلدي) في ذهن الفلاح هو خليط من الميوعة والبخل والانحلال وضعف الشخصية. لقد كان الفلاحون يحبون الاستماع إلى كلمة (الاستقلال) من هؤلاء (البلديين). ولكنهم كانوا في الوقت ذاته يسخرون من وسائلهم للحصول على هذا الاستقلال، ويؤمنون إيمانا راسخا بأن الاستقلال يأتي على أيدي الفلاحين. والفلاحون وحدهم هم الذين يملكون الوسائل التي تمكنهم من طرد فرنسا وجيشها وشرطتها - بوليسها - من الجزائر.

كنت - قبل الثورة - أوزع في إحدى الجولات الانتخابية على الفلاحين، نشرات الدعاية لمرشح وطني، وكنت ألاقي من الفلاحين - في معظم الأحيان - سخرية من الانتخابات، واحتقارا للأحزاب التي شاركت فيها. إلا أنني لن أنسى أبدا حادثة وقعت لي مع فلاح عجوز:١ (ناولته الورقة، وشرحت له كيف يضع هذه الورقة في الظرف ثم يلقيها في صندوق الاقتراع. ثم ألقيت عليه خطبة حول إخلاص المرشح ووطنيته، وكيف سلخ سنوات من عمره في السجن، وعن مواهبه الخارقة وجدارته في تحقيق الاستقلال بسرعة). واستمع إلي الفلاح العجوز في هدوء. لم تتحرك أثناءه عضلة واحدة من عضلات تقاسيم وجهه. ثم رفع إلي عينيه الخضراوين، وقال وهو يضع التبغ في الورقة التي أعطيتها له قبل قليل، ويلفها، ويقول: (إن هذه الورقة لا تصلح إلا للف الشعرة - التبغ -) وأردت أن أثور في وجه هذا الفلاح الذي أهان مرشحي البطل .. لكن الفلاح العجوز أوقفني بإشارة من يده، وقال وهو ينفخ أول خيط دخان من فمه، ويتابعه بنظراته، ويشير إلي بسبابته الخشنة: (إن كل مجهوداتكم هذه تتلاشى مع خيوط هذا الدخان الأزرق في الفضاء الواسع .. إذا أردت الاستقلال،

<<  <  ج: ص:  >  >>