المحتدمة في نفس (محمد الأندلسي) تدفعه لاستشارة ساعته في كل ثانية، غير أنه امتنع عن الاستجابة لرغبته حتى لا يجذب الانتباه إليه. وأخيرا ظهرت له مئذنة الجامع، شامخة بكبرياء، تمثل كل الحضارة .. الإسلامية، وهزت جسد (محمد الأندلسي) رعدة قوية لرؤيتها، وأدرك أنه وصل إلى هدفه، فمضى بخطى ثابته، وهبط درجات المدخل المؤدي إلى الباب الكبير للجامع (المسجد). وتبادل - سرا - التحية مع زمرة الفدائيين - الأخوة - الذين كانوا يستندون إلى (الدرابزوق) وظهرت عليه علامات الارتياح لما شعر به من احترام لتدابير الحيطة الهادفة للمحافظة على سرية العملية. واتجه مباشرة وهو يتوغل داخل المسجد إلى المكان المخصص للوضوء، حيث كان يصطف إلى يساره نسق من دورات المياه (المراحيض). ودخل (محمد الأندلسي) الى دورة من دورات المياه، وأوصد مغلاق الباب، وأخرج من كيسه آلة الحلاقة، فحلق ذقنه، وأصبح بلا لحية - كما خلع (شاربه) الذي جهد في منزله على وضعه بعناية فائقة في موضعه، حتى بات مميزا لملامح حامله في نظر أولئك الذين رأوه داخلا إلى المسجد، أو هؤلاء الذين عرفوه عن قرب أو عن بعد. ثم خلع بنطاله وارتدى الجلباب (الغندورة) ووضع العمة على رأسه فاكتمل بذلك تنكره. وكان هناك صوت أجش لرجل يشرح بعض الأحاديث النبوية الشريفة، يرتفع من الطابق الأسفل للمسجد، في حين كانت أصوات عصبة من المتسولين ترتفع على صوت المحدث وتقاطعه. وكان منظر هذه العصبة من المتسولين تمثل جرحا في جملة الجراح النازفة التي خلفها الاستعمار الفرنسي المرعب في جسد الأمة الجزائرية.