الجسمية تلك المعاناة النفسية المريرة بسبب إلزامه على البقاء من غير القيام بأي عمل أو نشاط له صلة بالصراع ضد أعداء البلاد. وطالما تذمر في تلك الفترة من حجزه، ومن عجزه عن متابعته الصراع. لقد كان أمنه وسلامه مرتبطا بقدرته على الجهاد.
أما (فضيلة) فقد اقتحمت بحزم كوخا صغيرا من تلك التي تؤوي الفقراء. فوقع نظرها فورا على سيدة عجوز وقد جلست على جلد خروف، وهي تدير طاحونة القمح اليدوية. فنظرت إليها بقلق خلال جزء من الثانية. لم يكن الوقت يسمح بتبادل الحديث أو شرح الموقف، يجب الخروج من المأزق بأقصى سرعة، وتجنب الخطر قدر المستطاع. واستطاعت المرأة العجوز الطيبة أن تدرك المأساة التي تتعرض لها الفتاة (فضيلة)، وأمكن لها الاحتفاظ بكل برود أعصابها وهدوئها، فقامت بحل شعر الفتاة، حتى ظهرت بشكل (فتاة غندورة) ثم نثرت بعضا من الدقيق عليها حتى غطتها فظهرت وكأنها تمارس عملها منذ وقت غير قصير في (طحن القمح). غير أن ذلك لم يكن كل شيء، فثيابها لا تزال تحمل رائحة جدها، وكذلك منديلها الأسود الذي سقط منها أثناء ركضها الجنوني. وشعرت (فضيلة) أنها وقعت في الفخ، إنه خطر حقيقي في أن تترك ذلك الأثر الذي يفضح أمرها، ويمهد لإلقاء القبض عليها عندما يصل رجال الشرطة بعد هنيهة وبرفقتهم كلابهم البوليسية وناجت (فضيلة) نفسها: (أنقذني يا الله! ماذا أفعل! احفظي يا رب، واحمني يا إلهي) وأخذت أسنان (فضيلة) تصطك رعبا، فهي تعرف ما قد تتعرض له فيما لو تم إلقاء القبض عليها. وفكرت للحظة في أختها (مريم) التي اختطفها الإفرنسيون بطريقة غامضة، ثم أعلنوا عن موتها تحت التعذيب. وخطرت في ذاكرتها أيضا، كلمح