ومضت على ذلك أسابيع، وانقضى الشهر الثاني على اعتقال السيدة (و) التي باتت تنظر إلى الجميع من غير أن ترى أحدا، كمن أصابها مس من الجنون، وكان تفكيرها برضيعها الذي تركته في سريره قد آل بها إلى ما هي عليه من منظر لا يحتمل.
كان التوتر العصبي العام يشتد في بعض الأمسيات حتى يبلغ ذروته، فتنفجر المناقشات الحادة بين المعتقلات لأسباب تافهة، مثل الحصول على غطاء، أو قطعة خبز، أو حتى من أجل كلمة نطقت بها إحداهن على غير إرادة منها، ودونما قصد الإساءة إلى أحد. وفي مثل هذه الحالة كان مهجعنا يتحول إلى ما يشبه (غرفة المجانين). بعضهن يقهقهن ضاحكات، وأخريات يرفعن عقيرتهن بالغناء، وأخريات أيضا يتصايحن على غير إرادة منهن.
كان (الجوع) و (الكآبة) هما وحدهما القادران على إرغامنا على التحكم بأعصابنا. فعندما نحرم من طعام الصباح، وتأتي الساعة الواحدة والنصف ظهرا ونحن جياع، ترانا وقد لجأت كل واحدة منا إلى زاوية وتمددت فيها، وراحت في غفوة هي بين النوم والصحو، مستسلمة لألم الجوع، وخاضعة للضعف الذي لا يمكنها حتى على الإجابة إذا ما طرح عليها أي سؤال. وكان وباء (الحنين) يهبط علينا بصورة مباغتة، فيرتفع ضجيج الإجهاش بالبكاء، وتنطلق من العيون نظرات مرعبة. وسعيدات هن اللواتي يجدن القدرة على البكاء وذرف الدموع، ففيها بعض العزاء لنفوسهن المعذبة. وكانت الفتاتان المغنيتان (ف) و (د) تقدمان لنا في مثل هذه الظروف مساعدة لا توصف. كانتا لا تقومان بالغناء إلا نادرا (وعندما تتوافر لهن الاستثارة). وعندها تنطلقان للغناء من أجل الجميع. وذات