مساء عرفت الفتاتان بأن أمهما مريضة، فأخذتا تنتحبان، واعتصرنا الألم جميعا، إذ تذكرت كل واحدة أهلها وعائلتها، وخيم الحزن على المعتقلات، وشعرت كل واحدة بغصة في حلقها وهي تستمع إلى المغنيتين ينشدن (فاض الوجد يا عليا) بلهجة حزينة أثارت الحنين والبكاء. كان صوتها عذبا للغاية، موزونا، قويا، يغيب أحيانا ليترك الفرصة أمام (المجهشات بالبكاء بحرقة ومرارة).
لم يعد تبادل الحديث هو الشغل الشاغل للمعتقلات، بعد مضي فترة من الوقت، فباتت الطاعنات بالسن - خاصة - يجتررن الحديث ذاته، وذلك بسبب الافتقار لمواضيع جديدة يمكن التحدث فيها. وها هي على سبيل المثال (السيدة - هـ) تتحدث في قضيتها فتستثير كل من يسمعها، إنها لا تتحدث إلا (عن راتبها التقاعدي الزهيد الذي ستفقده بعد أن أفنت سنوات عمرها في العمل خادمة لأحد الفنادق). ومع العزوف عن الحديث، اتجه اهتمامنا نحو الخارج، فكنا نمضي فترة بعد الظهر بكاملها أحيانا، ونحن واقفات خلف القضبان الحديدية للنافذة، نتطلع من خلالها إلى الحقول، والسهل البعيد، كان هناك (طريق الجيش الترابي) الذي يفصلنا عن تيار الحياة. وكانت بعض العائلات قد نجحت في الوصول إليه، وصرخوا منادين أفراد عائلاتهم المعتقلين (بأسمائهم) و (بألقابهم - الكنية). غير أن الجند استطاع طردهم بعيدا حتى الغابة. وكنا نجيبهم عندما ندرك أن الحرس مشغول عنا. وكان لا بد من الصراخ بقوة كبيرة حتى تصل كلماتنا إلى آذانهم.
حاولت (زوجة مصطفى) الحصول على أخبار زوجها بعد مصرعه بأسابيع عديدة، وكانت تنادي (مصطفى) وأجابتها إحدى المعتقلات (إنه بخير - إنه بخير). غير أنها علمت بقصة وفاته،