فالإنسان يعجب من الأحياء بعد الموت فيذكره ربه بقدرته وأنه خلقه من قبل، ولم يك شيئا، فالنشأة الأولى أصعب في حساب العقل، فناسب ذلك حذف النون فحذفها تنبيها على مقدار قدرة الخالق، وكيف أنشأ الإنسان من العدم، وليس المقام كذلك في سورة الإنسان.
ومن هذا الباب قوله تعالى:{ولم أك بغيا}[مريم: ٢٠] فهذا أبعد في نفي البغي من (لم أكن)، أي أن هذا لم يكن أصلا وليس له وجود فحذف الآخر يوحي، بأن فعل الوجود لم يتم فكيف بالشيء نفسه؟ وقد يكون الحذف ههنا للإسراع، إضافة إلى ذلك، فهذا القول على لسان مريم للملك الذي تمثل لها بشرًا سويا، فهي لا تريد أن تتبسط في الكلام مع رجل غرب في خلوة كهذه، وهو المناسب لمقام الحياء ههنا، وهذا الحذف يؤدي الغرضين معًا. ونحوه قوله تعالى:{لم يك من المصلين ولم نك نطعم المسكين}[المدثر: ٤٣ - ٤٤]، أي البتة لا في قليل ولا في كثير فحذف آخر الفعل تنبيها على ذلك، وقد يكون الحذف ههنا أيضا للعزوف عن الحديث أو لأن المتكلم لا يقوى على الكلام لما فيه من الضعف والإرهاق.
٥ - قد يكون الحذف للتنبيه على مبدأ الشيء وحقارته - كما جاء في (البرهان) - وأنه في طور التكوين لم يكتمل بعد كما أن الفعل لم يكتمل قال تعالى:{ألم يك نطفة من مني يمنى}[القيامة: ٣٧].
ومن هذا الباب قوله تعالى:{يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}[لقمان: ١٦]، فمرة جاء بالفعل بلا نون ومرة جاء بالنون وقد يبدو أن كلا الأمرين واحد، والحقيقة ليست كذلك فقد قال (إنها إن تك مثقال حبة من خردل) ولم يعين مكانها ثم عين مكانها فيما بعد، فقال (فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض)، فالأولى أبعد في الوجود أي هباءة تائهة لا مكان لها فحذف النون.