فأنت ترى إنه في آية المائدة رفع الصابئين وقدمهم على النصارى، وفي آية البقرة نصبهم وأخرهم عن الملل الأخرى.
وسر ذلك أنه في آية المائدة رفعهم لأنهم أبعد المذكورين ضلالا، فكان توكيدهم أقل من غيرهم، وأما تقديمهم على النصاري فلأن الكلام فيما بعد هذه الآية على ذم عقيدة النصارى وتسفيه عقيدة التثليث، فكأن النصارى لم يؤمنوا بالله حقا وإنما هم من صنف المشركين ويبدأ الكلام عليهم بقوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أني يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)[المائدة: ٧٢ - ٧٧].
فقدم الصابئين عليهم وهو المناسب للمقام، وليس نحو هذا الأمر موجودا في آية البقرة فجرت الآية على نسق واحد، فأخر الصابئين وجعلهم في مكانهم بعد الملل.
وقد جرير:
إن الخلافة والنبوة فيهم ... والمكرمات وسادة أطهار
ففصل بين الخلافة والنبوة من جهة، والمكرمات والسادة الأطهار من جهة أخرى. فجعل الفريق الثاني أقل رتبة من النبوة والخلافة، بحذف توكيده ولم يجعل الكلام بمنزلة واحدة، واحسب أن جريرا وفق في هذا، مختارا كان أو مضطرا.
وهذا الذي ذكرناه هو ما يقتضيه القياس ويؤيده الاستعمال والله أعلم