للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة، هو نفي الوجود عن المثل فأما الطلب فكالشيء يذكر ليبني عليه الغرض، ويؤكد به أمره. وإذا كان هذا كذلك فلو أنه قال: قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده، لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، وأوقعه على ضميره ولن تبلغ الكناية مبلغ الصريح أبدًا.

وإذا قد عرفت هذا فإن هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري، فيعمل الأول من الفعلين، وذلك قوله:

ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما أن يكون اصاب مالا

أعمل (لم أمدح) الذي هو الأول في صريح لفظ (اللئيم) وأرضى الذي هو الثاني في ضميره، وذلك لأن إيقاع نفي المدح عن اللئيم صريحا والمجيء به مكشوفا ظاهرا هو الواجب من حيث كان أصل الغرض، وكان الارضاء تعليلا له. ولو أنه قال: ولم أمدح لأرضى بشعري لئيما لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل، وأبانه فيما ليس بالأصل. فاعرفه.

ولهذا الذي ذكرنا من أن للتصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} [الإسراء: ١٠٥]، وقوله {قل هو الله أحد. الله الصمد} [الإخلاص: ١ - ٢]، من الحسن والبهجة ومن الفخامة والنبل ما لا يخفى موضعه على بصير، وكان لو ترك فيه الإضهار إلى الإضمار، فقيل: وبالحق أنزلناه وبه نزل وقل هو الله هو الصمد، لعدمت الذي أنت واجده الآن (١).


(١) دلائل الإعجاز ١٢٩ - ١٣١

<<  <  ج: ص:  >  >>