فالأولى بدون (من) والثانية بمن، وقد يبدو ان (من) ههنا زائدة زيادة ظاهرة، ولكن لدي التدقيق يتبين أنها ليست زائدة، ومن مقارنة السياقين يتبين ذلك.
قال تعالى في سورة النحل:{وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناء إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا إن الله عليم قدير}[النحل: ٦٨ - ٧٠].
وقال في سورة الحج:{يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفي ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبت من كل زوج بهيج}[الحج: ٥].
فأنت ترى أن الآية الثانية رد على من هو في ريب من البعث، وإيضاح بالغ قدرة الله له وكيف أنه خلقه من التراب بشرا فطوره إلى أن يرد إلى أرذل العمل فيجهل من بعد العلم، إلى غير ذلك، من مظاهر قدرة الله، فذكر (من) هنا بخلاف آية النحل لسر لطيف وهو أن قوله (لكيلا يعلم من بعد علمه شيئا) معناه أنه الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة، فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام، أما قوله (بعد علم) فيحتمل الزمن القريب والبعيد، فهو كقولك جئت بعد خالد، يحتمل الزمن القريب، والبعيد وأما من فقد أفادت الابتداء، أي يبدأ الجهل المباشر بعد العلم، بلا مهلة ولا فاصل، وهو أدل على قدرة الله وذلك لأنه انتقال مباشر من العلم إلى الجهل، أما قوله (بعد علم) فيحتمل أن مرت عليه مدة طويلة من غياب بعض المعلومات ونسيانها إلى الجهل، فمعنى (من بعد علم) أنه قادر على أن يغير بأقرب وقت من حال إلى حال، وهو المناسب لمقام تبيان القدرة لمنكري البعث.