ونحو قوله تعالى:{لتجزي كل نفس بما تسعى}[طه: ١٥]، أي بسعيها، ولو أبدلت (أن) بها فقلت (لتجزي كل نفس بأن تسعى) تغير المعنى، وأصبح أنها تجزي لأنها تسعى، فالأولى سعي مخصوص تجزي به أن كان خيرًا فخير، أو شرًا فشر. والثانية أنه مطلق السعي فهي تجزي لأنها تسعى وليس فيها المعنى الأول.
ونحوه قوله تعالى:{ربكم أعلم بما لبثتم}[الكهف: ١٩]، أي: يلبثكم، والمقصود به زمن لبثكم ومدته، ولو قال:(ربكم أعلم بأن لبثتم) لكان المعنى أن ربكم يعلم بأنكم لبثتم، وهذا غير مراد، فالأولى لبث مخصوص بخلاف الثانية.
فمصدر (ما) مخصوص محدود، بخلاف مصدر (أن) فإنه لمجرد الحدث، وهذا فرق رئيس بينهما كما ذكرت.
٥ - إن (أنْ) تستعمل للتعليل كما ذكرنا بخلاف (ما) وهي تقوم مقام حرف التعليل مع الأفعال الماضية، وذلك نحو {وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا}[مريم: ٩٠، ٩١]، وقد تقول أن (ما) وردت للتعليل أيضا، نحو {لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}[ص: ٢٦]، وقوله:{إني جزئتهم اليوم بما صبروا}[المؤمنون: ١١١].
والحق أن (ما) لم تأت للتعليل إلا مع حرف يفيد التلعيل، أما (أن) فهي حيث وردت للتعليل منزوعة من حروف التعليل في القرآن الكريم، إلا في نحو قوله تعالى:{لئلا يعلم أهل الكتاب}[الحديد: ٢٩]، وقد مر بنا هذا.
٦ - ثم أنهما يختلفان من حيث التعليل، وذلك أن تقول مثلا (عاقبتك بما ذهبت إلى القرية) أي عاقبتك بسبب ذهابك، ولو قلت:(عاقبتك بأن ذهبت إلى القرية) احتمل هذا المعنى واحتمل أنه عاقبه بالذهاب، أي جعل ذهابه هو العقوبة.
ونحوه أن تقول:(لقد جزاك الله بما كنت من المصلحين) و (جزاك الله بأن كنت من المصلحين) فالأولى معناها أنه جزاك بسبب كونك من المصلحين، والثانية تحتمل السببية، وتحتمل أنه جزاه أن جعله من المصلحين، فالجزاء هو جعله من المصلحين.