للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّلَامَةِ. قُلْت: وَالسَّلَامَةُ لَا يُعَادِلُهَا شَيْءٌ. قَالَ الْإِمَامُ الْوَزِيرُ بْنُ هُبَيْرَةَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَقْرِ إلَّا أَنَّهُ بَابُ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِنَى أَلَّا أَنَّهُ بَابُ التَّسَخُّطِ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى الْفَقِيرَ رَضِيَ عَنْ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَإِذَا رَأَى الْغَنِيَّ سَخِطَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي فَضْلِ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ، انْتَهَى.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى لِيَصِلَ إلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، انْتَهَى.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ: الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: مَنْ تَأَمَّلَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ وَكَوْنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَثِيرَ الْجُوعِ، بَعِيدَ الشِّبْعِ، يَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَتُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ، وَرَأَى إعْرَاضَهُ عَنْ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَالِانْهِمَاكِ فِي لَذَّاتِهَا، وَنَفْضَ يَدَيْهِ مِنْ شَهَوَاتِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ عَنْ اخْتِيَارٍ لَا اضْطِرَارٍ، عَلِمَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ التَّقَلُّلَ مِنْ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ - وَإِنْ كَانَ شَاكِرًا - عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْفَقِيرَ يَسْلَمُ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ. وَيَسْبِقُ الْغَنِيَّ إلَى الْجَنَّةِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَهَلْ يَخْتَارُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ إلَّا أَكْمَلَ الْحَالَاتِ. وَهَلْ يَخْتَارُ الرَّسُولُ لِنَفْسِهِ إلَّا أَفْضَلَ الْمَقَامَاتِ.

وَقَدْ أَفْرَدْت لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً أَتَيْت فِيهَا بِأَكْثَرِ أَحَادِيثِ مَدْحِ الْفَقْرِ وَالْفُقَرَاءِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا

(الثَّانِي) : قَدْ تَرَادَفَتْ الْأَخْبَارُ، وَتَوَاتَرَتْ الْآثَارُ، بِذَمِّ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَمَدْحِ التَّقَلُّلِ مِنْهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالزُّهْدِ فِيهَا وَفِي لَذَّاتِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>